لماذا يحارب الأطباء النفسيون بكل جهدهم لتوعية الناس بالمرض النفسي ومحو الوصمة المرتبطة به في مجتمعاتنا؟
من وجهة نظري المتواضعة، سأروي لكم موقفاً حدث بالفعل..
أثناء المحاضرة التعريفية بتخصص جراحة الأنف والأذن، طرح الأستاذ المحاضر سؤالاً محل جدل، السمع والبصر، أيهما أهم؟
تفاوتت الإجابات بيننا، فكرر سؤاله بصيغة أخرى: ماذا إن رأيت في الطريق رجلين، أحدهما كفيف والآخر أصم.. لمن ستقدم المساعدة، ولمن سيكون تعاطفك؟
كإجابة منطقية، يجب مساعدة الرجلين. فأضاف المحاضر ملاحظة من الملاحظات العاصفة للذهن، أنه إن سألك كفيفك مساعدتك في عبور الطريق فأنت بلا تردد ستساعده، وستشعر بكل فخر بعد مساعدته. أما لو حاول أصم سؤالك عن أي مساعدة بالإشارات فإنك غالباً ستظنه يلهو معك.
الفرق بين الرجلين أن إصابة الأول ظاهرة واضحة أمامك، عكس الثاني. وهذه المعلومة هي المعلومة الأولى، وهي تأثير الإصابة الظاهرة في حكمنا على الأمور.
أما المعلومة الثانية فكانت عن مدى تأثير الإصابة نفسها على كليهما. فلو قمنا بدراسة وضع الكفيف بدايةً، ففقدانه حاسة البصر نظرياً أفقدته نصف مساحته من الإدراك الحسي، باعتبار أننا نرى ما أمامنا فقط وليس ما خلفنا. أما عن حال الأصم، ففقدانه حاسة السمع أفقدته مساحته الكاملة من الإدراك الحسي، باعتبار أننا نسمع من كل الاتجاهات.
ومثال على تأثير ذلك، فإن انطلق بوق سيارة ما، فسينتبه الكفيف، وإن لم يفعل فسيجد من ينبهه بناءً على المعلومة الأولى السابق ذكرها. أما إن تعرض الأصم لنفس الموقف، فلن ينتبه، ولن يجد من ينبهه، بل قد يجد تهكماً أو توبيخاً من المارة لاستهتاره، ولن يتعاطفوا معه إلا إذا أراد هو إظهار إصابته وإخبارهم.
وطبقاً للمعلومتين السابق ذكرهما، نستنتج أن الأولى بالمساعدة والتعاطف هو الأصم، وهذا عكس ما يحدث.
وما دخل كل هذا الموقف بالمرض النفسي؟ العلاقة بينهما في وجهة نظري، أن المرض النفسي إصابة غير ظاهرة، وغير ملموسة، وغير معلوم مدى تأثيرها على المريض نفسه.
فأنت قد يصيبك طنين أو التهاب في الأذن وتفقد حاسة السمع قليلاً فتتعاطف مع الأصم، أو ينقطع عنك التيار الكهربي فتتخبط في الظلام كالكفيف، عقلك أصبح مهيأً لاستقبال واستشعار الألم الجسدي أياً كان نوعه وموضعه، حتى وإن لم تتعرض له..
أما المريض النفسي الذي يعاني من الهلاوس، فمن الصعب تفهُّم ما يراه من أشخاص وما يسمعه من أصوات تبدو له حقيقية جداً كقراءتك لهذا المقال..
لن تستطيع تخيل رؤية حياتك مظلمة تماماً. قد تحزن، لكنك لن تستوعب معنى أن تترك حياتك وعملك وأصدقاءك لأنك تشعر بألم ما، حتى الهواء الذي تتنفسه يؤلمك، ليس لديك أي دافع لأن تترك سريرك وتفرش أسنانك، لن تفهم هذا بسهولة إلا إذا مررت بالاكتئاب أولاً.
من الوارد جداً أن تكون قد تأثرت بإعلانات التبرع لصالح مرضى القلب، أو الحروق أو الفشل الكلوي، وقد تكون تبرعت بدمك لصالح الأطفال المصابين بالسرطان.. لكن هل فكرت يوماً ولو لدقيقة ماذا يحدث في عقل المنتحر قبيل انتحاره؟ ما الذي دفعه إلى هذه الخطوة؟ ما ثقل الألم الذي كان يحمله بداخله؟ كم مرة حاول أن ينبه من حوله أنه يمر بتجربة ثقيلة وقيل له: "كفى دلعاً"؟
ما لن تستطيع فهمه أو الشعور به لن تستطيع التعاطف معه، وسيبقى مجرد لهوٍ وعبث وبُعد عن ذكر الله وتهلكة ألقى المريض بنفسه فيها، وربما أضفت قليلاً من الذم في الأخلاق وألقيت اللوم على تربية الأهل.. هكذا هي ثقافتنا، ودور كل شخص واعٍ أن يغيرها، فإن لم تستطع، فكن صفراً إلى أن تكون واحداً صحيحاً موجباً في هذه المعادلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.