يثور هذه الأيام جدل واسع حول قوانين المواريث، خصوصاً بعد تعديل تونس لها والمساواة بين المرأة والرجل خلافاً لأحكام الشريعة في هذا الصدد، ورغم صغر شأن القضية بمُجملها، فإن النقاشات الجارية والأسانيد التي تُساق ضمنها تفتقر لعناصر ومُحددات هامة، قد تعيد صياغة الموقف بمُجمله.
ولعل أشهر وأهم الأساطير انتشاراً في هذا الصدد، والتي تُساق كأساس للدفع بأحقية المرأة في المساواة في الميراث، هي أسطورة كون التقسيم الحالي للميراث سببه الأساس أن الرجل يتحمّل أعباءً مالية أكبر باعتباره العائل الأساسي للأسرة (والتي كان يدفع بها الشيوخ لتفسير التقسيم القرآني عن ضعف معرفة منهم بالأساس التاريخي)، ومادام الوضع قد تغيّر ولو جزئياً، بمشاركة المرأة في أعباء الأسرة؛ فإنها تستحق نصيباً مساوياً في الميراث، وهو قول فيه من المنطق بقدر ما فيه من الجهل بالتاريخ والسياق الاجتماعي، كما يتبيّن من النقاط التالية:
1- تاريخياً، لم يكن تقسيم الميراث يخضع لمنطق العدل، بل لاعتبارات عملية تتعلّق بأولويات النظام الاجتماعي وحسابات مُكوناته؛ باعتباره مُكوناً جوهرياً ضمنها، ولم يكن ضمن هذه الحسابات بحال من الأحوال قضية الرجل والمرأة (فليس في الأمر أي مؤامرة خاصة على المرأة أو اضطهاد مُتعمّد لها على ما ترى النسويات المُنطلِقات من وهم "مركزية المرأة في التاريخ")، ففي إنكلترا مثلاً منذ أقل من 500 سنة، كان مُجمل الميراث يذهب للابن الأكبر، ويُستبعد منه الجميع، بما في ذلك إخوته الذكور الأصغر، الذين كانوا يتشرّدون أحياناً، لو لم يكن هذا الأخ الأكبر على قدر من الخلق اللائق والكريم، وهو ما كان يرجع أساساً لاعتبارات مُتعلّقة بعدم تقسيم الملكية التي كانت مُتمحورة وقتها حول الأرض الزراعية.
2- كان العرب قبل الإسلام يوزّعون الميراث بين الذكور فقط، وتحديداً الذكور القادرين على القتال، وقليلاً ما فعلوا العكس (ونفس الممارسات تقريباً لا تزال مُستمرة بأشكال مشابهة في صعيد مصر!)، وقد كانوا يفعلون ذلك لسببين: أولهما عملي يتعلّق بعدم خروج الملكية عن نطاق الأسرة، وثانيهما شرعي بمنطق النظام القبلي، الذي كان يعتمد كركن أساسي في بقائه وإعادة إنتاجه، بل وحتى فيما يتعلّق بمنظومة إنتاج الثروة نفسها (كموارد ومناطق نفوذ)، على الحرب دفاعاً وهجوماً، وهي المهمة التي كان يقوم بها الذكور بشكل شبه حصري؛ فكان استئثارهم بالميراث نوعاً من استيفاء مقابل ضريبة الدم التي يقدمونها وحدهم، ومنطقاً من مجتمع القبيلة الذي كان لابد أن يقدّم لهم حافزاً للمخاطرة بحيواتهم في سبيله، باعتبارهم شركاءً فيه، وما كان للإسلام أن يغيّر هذه المنظومة دفعةً واحدة، كما لم يكن ممكناً أن يلغي العبودية بضربةٍ قاضية؛ فكان تعديله لمنظومة الميراث بالشكل الذي قدّمه امتيازاً حقيقياً للمرأة بالقياس لوضعها السابق.
3- رغم تغيّر الأنظمة الاجتماعية، لا يزال الوضع على حاله من حيث اختصاص الذكور اجتماعياً بمهام الحرب، التي لا تزال لها نفس الأهمية من حيث كونها أساس السيادة على الموارد، وقاعدة أساسية من قواعد تأمين النمو الاقتصادي (ولو بمجرد التهديد بالقوة لا استخدامها؛ ما يفسّر الإنفاق العسكري المُرتفع عالمياً دون مبرر)، ومُؤكد من وجهة اقتصادية بحتة أن لدماء الذكور التي بُذلت وتُبذل في الحروب ثمن اجتماعي، ومُموِّل بالمعنى الضريبي، فإذا قسنا على ما ذكرنا في البند (2)؛ نجد أن "ضريبة الدم" هذه هي المبرر المنطقي اجتماعياً لبقاء التقسيمة الحالية (وليست أسطورة إنفاق الرجل على الأسرة كما يقول الخطاب النسوي)، أما إذا عُمّمت هذه الضريبة على الجنسين؛ فسيكون منطقياً حينها المطالبة بالمساواة المطلقة بين الإخوة الذكور والإناث في الميراث.
4- هناك تصوّر شائع بأن مشاركة المرأة في إنفاق الأسرة شيء مُستجَد، وهو كذلك فقط بالنسبة لنساء الطبقة الوسطى التي لا تزال أقل طبقة تشارك نسائها في سوق العمل، فلم تضّطر نساء تلك الطبقة للنزول لسوق العمل بشكل واسع سوى مع الانفتاح الاقتصادي وتدهور أحوال الطبقة اقتصادياً واجتماعياً، أما في الطبقات الفقيرة، فقد كانت المرأة تشارك فعلاً بشكل شبه دائم في تكاليف حياة الأسرة، سواء بالعمل في الأرض ورعاية البهائم والدواجن (سواء للاستهلاك أو للبيع)، أو بالمُنتجات المنزلية التي يتم بيعها أو توفير الشراء من السوق من خلالها، قبل أن يتم تسليع معظمها مؤخراً على نطاق واسع (الخبز البلدي والأجبان وما شابه).
5- هناك مبالغة في حجم الأسر التي تعولها المرأة في مصر، وبشكل أخص تلك الأسر التي تنفق فيها المرأة على زوج أو أب عاطلين؛ فمعدل مشاركة المرأة في سوق العمل مُنخفض عموماً، لا يتجاوز ثُلث معدل مشاركة الرجال، بمعدل يبلغ حوالي 23% مقابل متوسط عالمي 50%، كما تتراوح نسبة الأسر التي ترأسها أو تعولها النساء ما بين 14 و30% (وفقاً لإحصاءات المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2017).
6- بتحليل وضعي – أي علمي مُحايد أخلاقياً – لوضعية الفئة الأخيرة من الأسر، وتحديداً أكثر للفئة الشاذة من الأسرة منها، التي تنفق فيها نساء مغلوبة على أمرها على رجال انتهازيين، أي عاطلين قادرين على العمل ولا يبحثون عنه بإرادتهم، فهي حالة توازن شاذ؛ فالمبادلة هنا بغضّ النظر عن ظلمها، مفيدة لهاته النسوة (وبالتالي فهي للمفارقة حالة توازن بالمعنى الاقتصادي)، حتى لو كانت مفيدة على طريقة العامل الذي يضطر للعمل بأجر كفاف بدلاً من الموت جوعاً (فهذا أيضاً وضع توازن اقتصادي مُعترف به اجتماعياً، مهما كان وصفه أخلاقياً).
أما عن موضوع المبادلة نفسه بين الطرفين، فهو "الحماية الاجتماعية" من الطامعين وكلاب الشوارع؛ بكونها في حمى رجل ولو بشكل اسمي (مرةً أخرى وظيفة الحماية!)، وفي هذه الحالة، فهذا المقابل الذي يحصّله ذلك الرجل الانتهازي هو نوع من "ريع الحماية"، يشبه ريوع فتوات الحارات قديماً (تذكّروا أننا في شبه دولة!)، وربما يشبه جزءاً من ريوع الإقطاعيين؛ فهو بغضّ النظر عن انتهازيته وانحطاطه أخلاقياً وإنسانياً، هو شكل من الاستغلال الاقتصادي، لكنه استغلال في إطار توازن اجتماعي – يخرجه من إطار الجريمة بمعناها القانوني – يمثّل أمراً واقعاً في ظرف تاريخي بعينه.
7- كمبدأ عام، عندما نضع قانوناً أو نغيّر قانون، فنحن ننطلق من المنطق الاجتماعي السائد، ونتعامل مع الحالة العامة الغالبة، مهما كانت الانحرافات عنها والاستثناءات عليها، ما تضطر القوانين للتغاضي عنها جزئياً أو كلياً، حتى يتغيّر السياق نفسه بشكل جذري، يتغيّر معه المنطق الاجتماعي، وعندها يتغيّر العرف ويغيّر معه القوانين كتحصيل حاصل!
وأكتفي بهذا القدر من "الرياضة الذهنية" التي أردت من خلالها مجرد تبيان بعض النقاط الغائبة عن النقاش الجاري، دونما اهتمام حقيقي من جانبي بالاشتباك في هذا الجدل، الذي أراه هامشياً ككثير مما يجبروننا على الجدل حوله في مصر حالياً، على حساب القضايا الحقيقية الأجدر بالنقاش والحل، ما أظن أن وراءه تآمراً غير بريء!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.