رسالة إلى إيلياء

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/04 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/04 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
Newborn, Baby, Labor - Childbirth, Hospital, Childbirth

 

صباح الخير يا صغيرة، صباح الخير يا إيلياء، يا عروس العواصم وعاصمة قلوبنا، ستكبرين وستتساءلين حتماً عن معنى اسمك الجميل ولماذا سميناك بهذا الاسم بالذات؟، في يوم مضى خلال أيام حملك، وبالتحديد بعد الشهر الرابع، كتبَ لنا أبوكِ سؤالاً عن أسماء مقترحة للإناث بعدما عرف من الطبيب الذي كشف على أمكِ خلال الفحص الدوري أنّ مَن تسكُن الرحم أنثى، ولأنني أميل للعتاقة في كل شيء، ولأنني أحبّ المدن التي لا تسكت عن الحديث، لا تنفكّ عن سرد التاريخ وقصص العابرين عليها، ويا لكثرتهم يا أصل العتاقة وجمالها البهي، اخترت "إيلياء" هذا الاسم الأعجمي الذي أطلق على مدينة بيت المقدس في عام 135م، اسم المدينة التي اخترناها قبلة للحُب والسلام، وعاصمةً للتصالح الديني؛ حيث تجد أبنيتها معبّأة باقتباسات من الإنجيل والقرآن، إياكِ يا حبيبتي أن يخدعك قولهم مما ستسمعينه على لسان الرواية الإسرائيلية التي تغيّر من حقائق كثيرة تتعلق بصفاتها، فيا إيلياء منذ أن وُجدت القدس وهي لم تكسِف أيّ يد مُدّت لها، سميناك باسمها؛ ليبقى التاريخ خالداً، الذكريات حاضرة ولتبقَ العاصمة المقدسة الباقية والأبدي فلسطين رغم محاولات الكيان الصهيوني تقسيمها شرقية وغربية، لا عليك الآن يا حبيبتي فحينما تكبرين ستبحثين أنتِ بنفسك وستصلين للحقيقية.

 

قد صبّحت عليك باسم الخير، صدقاً يا إيلياء لا أدري ما هو ماهية الخير هناك في مدينتك التي ولدت فيها حديثاً، وهل هو ذلك الخير المتعارف عليه عالمياً أو دعينا لا نبتعد كثيراً جغرافيا، ما رأيك في إبقاء التساؤل في الجوار أي عربي، لكن ليكن بحسبانك أن هذا لا يمنعك البتة من التخيل كيف يعيش الأطفال تُرى على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط مثلاً، هذا البحر الأزرق الوحيد لمدينتك الاستثنائية المسماة بغزة، المدينة اليتيمة التي لا تشبه غيرها من المدن، ستعرفين أسباب قولي لهذا.

 

منذ ساعات الصباح الأولى التي وُلدت فيها وأنا أهرب من كتابة مفردة الشتات، هذه المفردة اللغوية التي تدلّ على مأساتنا، والتي لها رهبتها البشعة ولم أُرِد أن أستقبلك بمفردات تبعث الحزن والقهر في النفس، ولكنّه الواقع يا وجه البياض أقوى منّا جميعاً يُبسط غصباً عنّا وبجبروت الكون ضرباته الموجعة وللأسف يلحقنا مهما عدَوْنا فارين، فالحقيقة لن تتغير، حقيقة قضيتنا الفلسطينية الصادمة، المُربكة، والقاسية جداً جداً.

 

استقبلنا خبر ولادتك يا إيلياء عبر الهاتف، مكالمة عادية سريعة ومقتضبة، قام جدّك "إسماعيل" بالاتصال علينا واحداً تلو الآخر، لم يأتِ ببال أحدنا من قبل حينما كنّا مجموعين حول طاولة الطعام في منزلنا الحميمي في الصفطاوي أنّنا سنصبح هكذا، أقصد مشتتين يا عمّة، كل واحد منّا في بلد، عمّك الكبير ماجد يتواجد في ألمانيا، هذا الذي يُتقن التحدّث ونسج العلاقات، والذي لا أعلمه فعلاً كيف يُخرج كلاماً كثيراً من فمه حتى وإن كان خلال لقائه الأول مع الناس، عمّتكِ شهد الوسطى التي تهوى الرّسم والغناء والدبكة في بريطانيا، وعمّتك الصغرى صاحبة الشعر الكيرلي التي بعد دراستها للماجستير أصبح الناس لديها عبارة عن حالات دراسة، تسكن حالياً في بلجيكا، وأنا يا قطعة القُطن التي أكتبُ لكِ هذه الرسالة فالكتابة هي ملاذي وتعويذة نجاتي أجلس على كرسي خشبي متحرك في البلكون في إسبانيا، أظنّك فهمت بشكلٍ واضحٍ ماذا أقصد بلفظ الشتات، لم تعُد تجمعنا المناسبات المفرحة، ولم يعُد بإمكاننا المشاركة سوى افتراضي عبر ما أتاحت لنا التكنولوجيا من تطبيقات تسمح لنا رؤيتك بالفيديو وسماع بُكائكِ؛ لأنك جائعة للحليب.

 مُحزنٌ جداً أن نسمع بهذه اللحظات التاريخية كموجز لأهم الأنباء، قصيرٌ وسريع، حتى إنّك لا تلحق التفاعل معه، ليس هناك مجال لعيش التفاصيل، تلك التفاصيل الفريدة التي لا تتكرر دائماً، أعني الدهشة الأولى لوالديكِ وذلك اللمعان المتلألئ إثر الفرح في عيون جديك لا بل هو أقرب للدموع المكدسة التي لا تحتاج سوى غمضةٍ لتندلق، إضافة إلى أنه ليس بإمكاننا حملكِ، لمس خدودك التفاحيّة الناعمة، أو المقارنة بين يدينا وصغر يديكِ، كل هذا صعب المنال فالبلاد فيها  مصطلح حرية التنقل معدوم، ستُطبل أذنك من كثرة الخض في موضوع المعابر، لا بل ستشعرين بالملل والقرف مِن عدم صلاح حاله، غالباً مغلق في وجوه من في الداخل والخارج، وإن فُتح لأيام معدودة خلال عدة أشهر، فالتجارة خير رابحٍ من خلال التنسيقيات مع الجانب المصري، إنّه خانق فعلاً.

 

بعد ولادتك ببضع ساعات، قرأتُ مقالاً حول مراحل تطور حديثي الولادة أمثالك، ما دفعني إليه الفضول العارم الذي أصابني نتيجة لولادتك البارحة، فبالتالي تقعين تحت هذا الوصف، يقال إنه بما أنك حديثة جداً يا صغيرتي فقط باستطاعتك رؤية لونين هما الأبيض والأسود، في مدينتك غزة؛ حيث تسكنين الآن سيكون اللون الأبيض هو لون الكهرباء حينما تأتي وهذا اللون سيكون شحيحاً وسترينه قليلاً جداً، أي ما يقارب 4 ساعات خلال اليوم الذي هو عبارة عن 24 ساعة، و19 ساعة من اللون الأسود القاتم، أي الظلام الدامس.

أتعرفين أوّل مرة اغتسلَ فيها جسدكِ النحيل كيف كانت؟، اتصلتُ على جدتكِ لأطمئن عليكِ وعلى أمكِ، كان اتصالاً عبر الواتس أب يتيح لي مشاهدتكِ، كانت الساعة قرابة العاشرة مساءً، كنتِ قد عدتِ للتو من المستشفى، وكان أبوكِ مصوباً الكاميرا عليكِ بينما جدتكِ منشغلة في استحمامكِ ويقول لي: "هل ترين إيلياء؟"، قلتُ مشدوهةً: "أين هي؟، لا أرى سوى سواد، لا يوجد عندكم إضاءة"، رد عليّ: "ما هُو يختي الكهرباء قاطعة"، شعرت باستياء وقهر كبيرين، وصرتُ أتمتم في داخلي، يا الله أول مرّة تستحمُّ فيها تلك الصغيرة تكون دون كهرباء، وهناك قرابة 150 طفلاً يُولد يومياً عاش المصير ذاته. لماذا عليها منذ اللحظة الأولى أن تعيش تفاصيل اللاحياة والحرمان من أبسط الحقوق الآدمية، أوَليْسَ  مبكراً كثيراً يا الله! إنّه يومها الثاني فقط في هذه الحياة.

 

هناك الكثير مما عليك معرفته عن مدينتك الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كم2 من شمالها حتى جنوبها، ورغم مساحتها هذه فإنّها تبدو للكثيرين القاطنين فيها مغرية جداً للإنجاب، لربما تضحكين لسماع هذا ولكنه صحيح، حتى إنك ستجدينهم كأنّهم في سباق للتكاثر رغم توالي النكبات اليومية عليهم من كل حدب وصوب، حقيقةً يا عمّة ليس لديّ أدنى تفسير على هذا المسلك المستهجن، لربما تفسّرينه لي لاحقاً.

 

صحيح، بالنسبة للبحر الذي بدأنا الحديث عنه في الأعلى، من المفترض أن يكون كله ملكنا، نبحر فيه كيفما شئنا والمسافة التي نريد ولكن عبثاً فهناك من يتحكم بعدد الأميال المسموحة لنا يا حبيبتي، فإن هويتِ الصيد مستقبلاً لن يكون بإمكانك تجاوز مسافة الصيد التي ستحددها لكِ قوات الاحتلال الإسرائيلي، آخر ما قرأته أنهم سمحوا بـ9 أميال ولكن هذا ليس الطبيعي، فغالباً تتراوح المسافة بين 3 و6 أميال، بالطبع حسب مزاجهم، ما أريد توصيله لك أن كل شيء هناك مقيد، الحرية حلم معقد جداً يا حبيبتي، أغلب المصطلحات التي ستسمعها أذناك الصغيرتان ستكون مثل فرض، حصار، مضايقات، إغلاق، تقييد، منع و حدود، أي كل مرادفات السجن، ما بإمكانه أن يخنقنا أكثر.

سطوةُ الحصار واحدة رغم تعدد الوجوه وكثرة الأسباب. هناك من يريد الخلاص منّا، وهناك مَن في خلاصنا له انتفاع ليرتفع منصبه ويتم تزكيته ويزداد غنى. هذه القضية التي لم تعُد بظالمٍ غريبٍ واحد بل أنبتتْ مِن بين أبنائها ظُلّام.

 

إيلياء يا كُرة الثلج، الكل في غزة منذ الصباح يتأفف ويلعن الكهرباء وانقطاعها مئة مرة، فنحن الآن في فصل الصيف ودرجة الحرارة شديدة جداً، الجميع يتصبّب عرقاً، والأجساد تتلوّع من الحر، صور الأطفال ملقاة على البلاط علّه يبرّد أجسادهم بعض الشيء نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، صورٌ تشلع القلب من مكانه، تُسرَق أعمارهم أمام أعينهم باسم اللاشيء، ويقنعون الناس يا إيلياء على أنّ هذه الحياة هي وجه من أوجه الصمود، في الوقت الذي يقتصر هذا النوع على مَن لا يوجد في بيته قائد سياسي.

 

رغم ما سردته لك سابقاً، ورغم وجه الحياة الذي فعلياً لا يعتبر وجهاً في مناطق أخرى على هذا الكوكب الواسع، لا تسمحي للمكان بأنْ يفرض عليكِ وجهه للحياة، اسألي عن كل شيء، عن أدق التفاصيل، عما يدور حولك، صدقي ما يستطيع عقلك تحمّله لا الذي يجب عليكِ تصديقه فالحقيقة ثقيلة جداً يا صغيرتي، واللاعبون بها كُثُر، لا تكوني نسخة مكررة وتحرري من القوالب الجاهزة فليس عليكَ أن تشبهي أحداً ولا تُلقي بالاً للأسئلة الكثيرة والمتكررة حول مَن هو أو هي قدوتك، تجاوزيها كلّها حيث ليس شرطاً أن يكون لكِ قدوة، كوني مؤمنة بما تفعلينه واجعلي قلبك وعقلك طريق هُداك، لا تصدقي الشعارات يا حبيبتي فكثيرون سيعتلون المنابر ويحملون المايكات مُدّعين الوطنية وهم خونة وكثيرون سيتحدثون باسم الله؛ ليسلبوا مكانه على الأرض.

كوني على ثقة أنكِ لن تكونين شخصاً عادياً كالبقية فمهما حشرتْنا هذه المدينة في الزاوية، إلا أنّها لها الأثر الأعظم في تميّزنا، فاختلافنا هو أصل قصتنا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مجد أبو سلامة
فلسطينية مقيمة في إسبانيا
تحميل المزيد