عزازيل تعني الشيطان أو الهاوية.
اسمحوا لي أن أطوف بكم على عجل في جنبات هذا العمل الروائي المتميز من خلال هذه المقتطفات:
– لي تلك الصبوة، وليس لي ذاك الإقدام.
– احزني قليلاً يا ابنتي، فالحزن شأن إنساني. وسوف يتبدد حزنك مع الأيام، مثل شؤون الإنسان.
– واليوم لماذا أخاف الموت؟ خليق بي أن أخاف من الحياة أكثر فهي الأكثر إيلاماً.
– لا يوجد في العالم أسمى من دفع الآلام، عن إنسان لا يستطيع التعبير عن ألمه.
– واعلم أن الحب إعصار كامن في زاوية بأعماق القلب وهو يتوق دوماً لاجتياح كل ما يعترض طريقه.
تخيلوا معي شخصية بهذه الصفات: راهب.. طبيب.. شاعر. هو *هيبا* بطل روايتنا، سنؤجل الحديث عنه الآن ونشرع في سرد مختصر لمجرى الأحداث، رغم أنني أتجنب غالباً هذه الخطوة، لأنها ربما تفقد القارئ شهية البحث عن العمل لقراءته.
تدور الأحداث في القرن الخامس الميلادي، إثر تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية وما أعقب ذلك من صراعات وخلافات بين مجموعة من الأطراف: آباء الكنيسة/المؤمنون الجدد/اليهود/الوثنيون.
الرواية كنز تم العثور عليه في صندوق خشبي محكم الإغلاق بمدينة حلب السورية – كتبت على رقوق وبحبر ذي جودة عالية – مما جعلها تصلنا في حالة جيدة. يمكن القول أنها سيرة ذاتية لهيبا الراهب الذي ألح عليه عزازيل ليكتب وهو يردد على مسامعه: اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبداً.
الدكتور يوسف زيدان (الرئيس السابق لقسم المخطوطات بجامعة الإسكندرية) يقدم لنا عملاً روائياً متقناً يرتكز على التاريخ والفلسفة والدين بنكهة أدبية شعرية ممتعة وبروح صوفية تنشد الصفاء.
1 ) رحلة هيبا.. الوجودية
خرج هيبا من صعيد مصر إثر مقتل والده الوثني على يد الرهبان بمساعدة أمه، فقرر التوجه للإسكندرية ليعيش راهباً ويدرس الطب. استاء هيبا من الجو السائد والمشحون بالصراعات الدينية والمذهبية وكان مقتل العالمة هيباتيا المروع سبباً في مغادرته الإسكندرية ليتجه إلى الشام مروراً بالقدس، ليقرر بعد ذلك الاستقرار بحلب.. إلا أنه بعد حمى شديدة أصابته وبمجرد التماثل للشفاء هام على وجهه في الأرض.
أحلى ما في هذه الرواية أنها تأسرك، من خلال السفر عبر الزمن – القرن الخامس الميلادي وبداياته – فتصحب الراهب هيبا الطيب الذي لا يتقاضى أجراً على مهنة الطب التي يزاولها ليخفف الألم عن الناس، وتخبر منه حياة الرهبنة وشكل الأديرة والكنائس الكبيرة والصغيرة وطقوسها وتسمع صوت المزاليج وترى المفاتيح الكبيرة المستعملة والصدئة.. تقترب من نفوس الرهبان وعقلياتهم ومنطقهم.
كما تمنحك – عزازيل – متعة لا توجد في غيرها من الأعمال العالمية، وهي أنك لا تحس بأنك تقرأ أوراقاً بل رقوقاً جيدة – كتبت بحبر ثمين من زمن بعيد – ثلاثون رقاً متفاوتة الطول ومتقاربة الجودة، بلغة بليغة جداً في التعبير عن الأفكار والمعتقدات والمشاعر..
أحببت في هيبا الراهب أنه لم يخف عنا شيئاً، حدثنا عن معراجه وزهده وروحانيته، ولم يخف عنا سقطاته وانحداراته الشهوانية من خلال إغواء (أوكتافيا) السكندرية الوثنية، وباح لنا أيضاً بحبه لمنشدة الترانيم *مرتا* وكراهيته لأمه التي تواطأت على مقتل أبيه والأدهى من ذلك أنها تزوجت قاتله..
2 ) مقتل هيباتيا
هيباتيا عالمة الرياضيات والفلسفة والفلك ابنة ثيون – عالم الرياضيات أيضاً – والتي أعجب بها هيبا أيما إعجاب لخاصيتين: المعرفة والتواضع، وحضر دروسها الفلسفية وتمنى لو أنها تدرس الطب لتتلمذ على يديها، تلقى حتفها على يد الغوغاء من الناس (جيش الكنيسة) بتحريض من أحد الرهبان متهماً إياها بالسحر، في مشهد مأساوي تذكره بتفصيل جميع المصادر التاريخية.
تأسف هيبا كثيراً لجبنه وعدم قدرته إنقاذ هيباتيا من هذه المأساة، ليبرهن على نفسية قلقة تعيش صراعاً أبدياً بين الحقيقة والبحث عنها، والقيود التي تحول دون ذلك.
كلمة أخيرة:
الرواية رحلة وجودية للبطل هيبا – الشخصية المتخيلة في الرواية والذي لم يجد وطناً للتسامح يعيش فيه – تتخطى التفاصيل والزمن والمكان لتطرح السؤال الهام عن السبب في كل هذه المآسي والحروب والصراعات التي يعيشها الإنسان المتمدن:
هل هو عزازيل؟
أم أخطاء النفس الفردية (الشهوات)؟
أم أخطاء النفس الجماعية (الاضطهاد الفكري والقتل)؟
لا تفوتوا قراءة عزازيل.. تجربة مضمونة النتائج.
وإذا كنت من محبي الروايات فاقرأ أيضاً:
"صائد اليرقات".. قصة مُخبر للأمن السوداني تعرض لحادث أليم وفقد ساقيه فقرر كتابة رواية !
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.