في خطوة غير مسبوقة قام محتجون بمحافظة ورقلة جنوب الجزائر في السابع والعشرين من تمّوز/يوليو الماضي بمقاطعة حفل غنائي بإقامة صلاة العشاء في المكان المخصص للحفل، ورفعوا بعد أداء الصلاة لافتات منددة بالتهميش والإقصاء والتمييز المُمارس ضدهم عبر عقود من الزمن. وبرزت دعوات مقاطعة الحفلات الفنية، والمطالبة بتوجيه الأموال المخصصة لهذه الحفلات لتنمية الجنوب، وقبل اللجوء إلى الصلاة في الساحات العمومية مارس المتظاهرون أساليب متعددة في الاحتجاج بهدف لفت انتباه السلطات المركزية على غرار خياطة الأفواه وتقطيع الجسد بشفرات الحلاقة، وأحياناً التهديد بالانتحار على طريقة البوعزيزي الشهيرة.
وعلى الرغم من قيام بعض الأصوات الموالية للحكومة بانتقاد تلك الاحتجاجات، فإن هذا الحراك يقدم في الواقع فرصة للحكومة لتحسين الأزمة المالية المتفشية منذ فترة طويلة في الجنوب.
فجَّرت تلك الاحتجاجات تساؤلات كثيرة بشأن ما يعانيه سكان الجنوب الجزائري من أوضاع اقتصادية واجتماعية متأزمة ومعقدة. ورغم أن محافظة ورقلة التي تبعد عن عاصمة البلاد بنحو 800 كلم يطلق عليها الجزائريون لقب "عاصمة النفط" كونها تحتوي على أغلب آبار النفط والمورد الأساسي لاقتصاد البلاد، بيد أن سكانها يعانون الأمرَّين في ظل غياب فرص التنمية، وتفشي نسب البطالة بين الشباب، وغياب فرص وأسباب الحياة الكريمة من خدمات صحية وترفيهية وتعليمية.
ورداً على تلك الاحتجاجات، وصف الوزير الأول (رئيس الحكومة) أحمد أويحيى الاحتجاج بأنه "شغب" يستدعي سجن من قام به، كما وصفته الإعلامية المثيرة للجدل حدّة حزام بأنه "سلوك خطير، واستحضار لمشاهد التسعينيات حينما كان الإسلاميون يقطعون الشوارع بحجة أداء الصلاة"، وقالت عنه زعيمة حزب العمال التروتيسكية لويزة حنون إنه "وجه من أوجه الممارسات الظلامية التي تهدد أمن البلاد"، وهي الممارسات والمشاهد التي كانت على حد تعبيرها "بوابة لحرب أهلية دمرت الأخضر واليابس لعقد من الزمن".
وقد فرضت السلطات الجزائرية حظراً على تنظيم المظاهرات في الجزائر استناداً إلى مرسوم تم إصداره عام 2001. وقد صدر هذا المرسوم بعد أربعة أيام من قيام حركة العروش الأمازيغية بتنظيم مسيرة ضخمة انطلاقاً من تيزي وزو باتجاه العاصمة، خلفت خسائر كبيرة منها مقتل صحفيين اثنين. وينص القانون على أن "أي مجموعة تسعى إلى تنظيم اجتماع عام يجب أن على ترخيص من السلطات قبل الاجتماع بثمانية أيام، ويتعين على الوالي أن يعلن موافقته على الاجتماع العام أو رفضه قبل انعقاده بخمسة أيام على أقل تقدير".
كان لأحداث الربيع العربي التي اندلعت دول الجوار أثر مباشر على الداخل الجزائري، حيث تسبب تدهور الأوضاع الأمنية عبر الحدود الجزائرية الواسعة سواءً مع ليبيا أو تونس، وفي منطقة الساحل. ومع مع بداية اندلاع النزاع في شمال مالي، قام الجيش الجزائري بفرض طوق أمني واسع عبر حدود البلاد لتأمينها، وهو ما انعكس سلباً على الحركة التجارية بالمنطقة سواء تلك التي تدار بشكل رسمي مثل "المقايضة"، حيث يعيش الكثير من الشباب في مناطق الجنوب على ممارسة هذا النوع من التجارة، هؤلاء وجدوا أنفسهم في الأخير دون عمل أو فرص لتأمين متطلبات حياتهم، أو تلك التي تدار بشكل غير رسمي مثل التهريب وغيرها. وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمة البطالة في البلاد التي تجاوز نسبتها 25% بين أوساط الشباب، حسب ما ذكرته الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان.
يعاني سكان الجنوب الجزائري أيضاً من غياب البنية التحتية، وبشكل خاص المشافي، ويضطر السكان إلى التنقل للعاصمة من أجل العلاج ما يمثل لهم كلفة بالغة ومشقة، وهذا ما يفسِّر المطالب التي رفعها الأطباء المضربون منذ أشهر والذين يرفضون العمل في مناطق الجنوب لغياب وسائل العمل. وفي تقريرها ذكرت الرابطة الحقوقية أن "الحكومة الجزائرية وضعت مخططاً تنموياً ما بين 2015 و2019 وهي الفترة التي تمثل عمر الولاية الرابعة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من أجل تنمية مناطق الجنوب"، إلا أن هذا المخطط تضيف المنظمة "مجرد حبر على ورق"، وكشفت المنظمة أن "صندوق تنمية الجنوب لم يستغل منه سوى 3% في حين تم تحويل الباقي لجهة غير معلنة".
في ظل المعطيات السابقة تنامى شعور عام بالإقصاء والتهميش، وهو ما دفع بسكان مناطق الجنوب إلى الاحتجاج على ظروفهم المعيشية، وهي الاحتجاجات التي بدأت عام 2011 مع ظهور ما يسمى "لجنة الدفاع عن حقوق البطالين أو العاطلين" والتي تشكلت لها فروع في العديد من محافظات الجنوب الجزائري على غرار ورقلة الأغواط بشار وغيرها من المناطق.
إن تفاقم الأوضاع الاقتصادية في الجنوب بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، وهو أمر يستدعي تعاملاً حذراً من قبل الحكومة في تعاطيها مع حراك الجنوب، حيث إن البلاد مقبلة على عملية انتخابات رئاسية مطلع العام المقبل، وقد يؤدي تنامي حالات الغضب إلى إفشال هذا الاستحقاق الانتخابي، خاصة مع تنامي دعوات ترشح بوتفليقة لولاية خامسة.
وعلى الرغم من رد الفعل غير المحسوب للحكومة حول اندلاع التظاهرات، فإن هناك فرصة كبيرة يمكن للحكومة استغلالها لاحتواء مطالب الجنوب من خلال الدفع بقطاع السياحة وتطويره، خاصة أن الجنوب الجزائري يتوافر على فرص سياحية هائلة، وهو أمر كفيل بخلق عدد كبير جداً من فرص التشغيل للشباب العاطل عن العمل، وتطوير السياحة سيدفع بقطاع آخر لا يقل أهمية بل ومكمل له ويتعلق الأمر بقطاع الصناعات التقليدية، حيث يزخر الجنوب الجزائري بتراث غني جداً للصناعات التقليدية، وهذا الأمر يوفر مداخيل كبيرة لاقتصاد البلاد ويمكنه أن يمتص نسباً كبيرة من البطالة.
كما يجب أن تولى الحكومة اهتماماً متزايداً بقطاع الزراعة في الجنوب الذي يمكن أن تكون بديلاً حقيقياً للنفط، حيث تمتلك العديد من المحافظات قدرات زراعية هائلة سواء في ما يتعلق بالتمور أو الخضر والفواكه المختلفة، وخير مثال على ذلك محافظة وادي سوف التي كانت صحراء قاحلة وباتت اليوم سلة غذاء للجزائر، بل وتصدر العديد من المنتجات الفلاحية خارج البلاد. كما يجب على الحكومة أيضاً الاهتمام بتحسين البنية التحتية في الجنوب وتحسين الخدمات الصحية والاجتماعية بشكل يكفل حق المواطنة لسكان الجنوب الجزائري.
في الوقت الذي تواجه فيه الجزائر بأكملها أزمة اقتصادية محتملة، فإن إدارة المخاوف الإقليمية والتغلب عليها في جنوب الجزائر، أمر لا بد منه للحفاظ على الاستقرار في البلاد. وبينما يرى البعض أن الاحتجاجات تمثل عنصراً مزعزعاً للاستقرار، إلا أن تلك الاحتجاجات كانت نتيجة عدم الاستقرار المتمثل في الفقر والركود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.