كانت الجثث تفترش الأرض من تحتي.. همسات سوري من ذاكرة الموت

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/03 الساعة 09:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/11 الساعة 13:24 بتوقيت غرينتش

21/8/2013

يقرع ناقوس ذاكرتي الباطنة بشدة رهيبة، وأعبر في تلفيف دماغي وأرى ذلك الماضي السحيق الذي كان يكتظ بتلك الطلاسم المتأرجحة على جدار رأسي المنهك.

رأسي الذي كان تطفح فيه مئات المجازر اللامتناهية، والتي يصعب تفسيرها لكثرة قساوتها وشظفها وصعوبة اندمالها مع حياة الشعب السوري الأبيّ.

بجهد دؤوب ولحظات.. قامت جوارحي وذهني بتفكيك تلك الطلاسم المتقوقعة داخل نفسها.

تقول ذاكرتي: بناءً على مسترجعات ماضي 21/8/2013 إن ذلك التاريخ كان هواؤه قد خبأ لنا في طيات نسائمه عبق الموت الذي تسلل إلى أجسامنا عندما استنشقناه.

"الكيماوي"

21/8/2013

تاريخ قضم بأيامه فلذات أكبادنا

تاريخ يعيد الموت إلينا ونحن أحياء

تاريخ سحق المئات من عوائلنا

صنع اليتامى والأرامل والثكالى والشهداء بنيف من اللحظات

كم كنت قاسياً وأخطأت بحقنا أيها "الكيماوي"

أتحدث ولأني كنت جزءاً من الواقعة، تتقهقر بي الذاكرة لمساء الأربعاء.. كنت أعمل ممرضاً في ذلك المشفى الميداني.

كان الأربعاء يوم مناوبتي، وما إن خلدت إلى النوم حتى استيقظت من غفوتي على تلك الفاجعة العظيمة.

وقفت صامتاً أحدق بعناية لا أصدق ما أرى ولا أعرف ما جرى

بثوانٍ معدودة وطرفة عين امتلأت ساحة الإسعاف بأشخاص مصابين مفجوعين

لحظات قليلة وتتزايد أعداد المصابين أكثر، إلى أن امتلأ ممر المشفى وساحته الخارجية التي تبلغ مساحتها ما يقارب 100 متر.

والناس يفترشون الأرض، ويتنوعون بين شهيد وناج.. بين طفل وامرأة.. بين شيخ وشاب، كنت أسير بينهم أكاد أصعق من هول المشهد، كنت أضع راحة يدي على شفتي اللتين ترتجفان وأضغطهما، شعرت بأن عيني كادتا تنفجران من عظمة الفاجعة.

كنت حينما أريد أن أمشي أرفع قدمي التي ترتجف في ارتباك وحيرة ولا أعرف أين أضعها.. أخاف أن أدوس جسد جريح أو أنتهك حرمة شهيد من كثرة المصابين والشهداء.

كنت أرى الناس سكارى وما هم بسكارى.

رأيت أطفالاً لم يدركوا الطفولة ترتديهم البراءة بعمر الأشهر، شاهدت وجههم وشفاههم الزرقاء التي اشتمت الكيماوي ولم يصلها الأوكسجين

رأيت عروساً بفستان زفافها

رأيت أطفالاً بلا أم وأماً بلا أطفال

رأيت شيوخاً وكهولاً رأيت شباباً وبنيناً

سمعت ما لم تسمعه أذن وتشاهده عين

لم يرحموا أحداً أبداً حتى الحجر اشتم رائحة الموت

رأيت زملائي وأطبائي يستنشقون ويموتون

رأيت بعيني ما لم تعرف أن تكتبه يداي

رأيت ورأيت ورأيت…

كان ذلك اليوم العصيب أشبه بقنبلة هيروشيما، كان ليلاً دامساً بالألم، وساكناً بالحقد، يعج بالموت، يمنع الحياة، ويحتكر الهواء.

كان ذنبنا وجُرمنا أننا نطقنا بكلمة (حرية).

ما أقبح تلك النوائب التي سربلها القدر إلينا، كم كانت قاسية على قلوب أنقى من الندى، كم كانت مجحفة بحق الأبرياء.

كم أحزنني أولئك الأطفال الذين نشقوا غاز الموت ولم يزفروه.

وتلك العروس التي كانت بفستان زفافها تنتظر فرحها وزوجها فسبقها الموت مهرولاً إليها.

وأولئك الشبان والكهول والسيدات والمسعفين والذين غفل عنهم قلمي ناموا ولم يستيقظوا.

لم يكن هناك سوى تلك الدموع التي كانت تغبش رؤيتنا ونحن نسعف المظلومين، وتلك المشاعر التي ترجف أيدينا والصرخات التي تكوي قلوبنا.

والأطفال التي جعلتنا نشهق من بكائنا

والنساء التي مزقت فؤادنا والشباب الذين كووا أكبادنا

ذلك اليوم العصيب.. جعل عدونا يمزقنا بعنفوان وفن متقن وما من أحد يمنعه من ذلك.

كان ذلك المجرم يبدع وهو يؤلمنا

 كان الموت كالوحوش التي تقضم الزهور بعشوائية مطلقة فذة.

وفي مثل هذا اليوم 8/2017 /21

شهدت الشمس كسوفاً يستمر لأكثر من 90 دقيقة، وهذه ليس ظاهرة طبيعة فحسب، بل انكسفت الشمس خجلاً وتضامناً مع الشعب الذي كان سلاحه حناجر تصدح بعبارات الحرية.

أبت تلك الشمس أن تسطع على وجوهنا التي أرهقها الهمّ والغم والكآبة.

عندما تتلفظون وتتحدثون عن غوطة دمشق وخان شيخون ابدؤوا بكلمة الله أكبر.. وحينما تنتهون اختموها بالسلام عليكم ورحمة الله، تماماً كما تفعلون في الصلاة.

لعلّ سلامكم يصل لأرواح تشكو لربها ظلم البعيد وخذلان القريب..

وداعاً بلا لقاء أيتها الحرب الكاوية، وسلام علينا يشبه سلام النار على سيدنا إبراهيم الخليل.

وسلام علينا يوم نولد ويوم نموت ويوم نبعث أحياء.


اقرأ أيضاً من تجارب السوريين المؤلمة:

 

عندما نظرت إلى وجه الضابط الذي يعذِّبني.. فوجدته كان صديقي بالمدرسة!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمود طعمة
كاتب ومدون سوري
تحميل المزيد