تصرُّ جماعة الأعمال (البيزنس) على جعل التسويق بنظريته الحديثة أساساً للتعامل بين أفراد المنظمة وكياناتها، بما يعني أن كل قسم من أقسامها يتعامل مع القسم الآخر كزبون عنده، يجب أن ينال رضاه كما في حالة التعامل مع كل العملاء خارج المنظمة، من مشترين إلى مورِّدين بما يشمل السلسلة كلها، غير أني أرى أنه في واقعنا المعاصر يمتد المفهوم ذاته للتعامل، إلى داخل البيوت والأسر بشكل مضطرد.
كيف ولماذا؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.
نحن كأفراد معرّضون لهذا الكمِّ الهائل من البيانات (الغث والسمين) عبر مختلف الوسائط في كل وقت وفي أي مكان، بحيث صارت قدرتنا على التمييز والتفضيل صعبة وغير يسيرة، فالكل يتنافس على إغرائنا (جذبنا) إلى منتجه، فكرته، برنامجه، نظريته… ونحن بالكاد نستطيع أن نضع إعجاباً (لايك) لأحدهم، وترك الآخر من دونه، بما يعني أن هذا الإغراق (وهو مصطلح اقتصادي أصلا -إغراق الأسواق- وهو ممنوع وقد يدخلك في المحاسبة القانونية التجارية الدولية) يترك أثره الواضح علينا، مزيداً من معرفة (ضارة أو نافعة) في مقابل ضعف قدرة على التمييز، فقد اختلط الحابل بالنابل (كما في المصطلح العربي القديم، الذي لا أعرف سببه ولا أراه محقاً في أيام استحداثه مقارنة بحالنا اليوم).
كثرة العارضين وشدة تحسينهم لمنتجاتهم جَلَبا صعوبة في التفريق والتمييز على الخبير، فكيف بالغِر الحديث، ولعل أولادنا في بيوتنا هم أكثر من يقع في هذا الإشكال، الذي يتضاعف عندما لا يملك الأب أو الأم وسائل تسويق وجذب لأفكارهم وقيمهم التي يرغبونها لأبنائهم، مكافئة لما يراه أولادهم في الوسائط من حولهم.
عندما يعتمد الآباء في تربية الأبناء على تقديم النموذج أو القدوة في القيم أو السلوك أو المعتقدات (فحسب) دون عملية تسويق، فإنهم يُعرّضون ما يقدمونه للنسيان، أو عدم التأثر، مقارنة بما يرِد أمام أعين أبنائهم، مذوَّقاً محسَّناً مشوِّقاً.
إنها معركة حقيقية لكسب قلوب وعقول الخلق، كل الخلق، لصالح منظومات من القيم والعادات والتقاليد المطلوب عولمتها تحت تأثير كمٍّ هائل من المشجعات والمرغِّبات لا تنتهي، وليس سهلاً مضاهاتها أو صدّها ومقاومتها، ومن هؤلاء الخلق وعلى رأسهم أبناؤنا في بيوتنا.
لست من أنصار التخوف من العولمة، ولا أدعو لمواجهتها، بل للتعامل معها والاستفادة مما تحمله من خير، رغم أن كثيرين من رجالات الغرب يقرّون أنها وعد وتحدٍّ، فهي حسب ريمي ريفيل في الكتاب الأخير من سلسلة عالم المعرفة (الثورة الرقمية، ثورة ثقافية) وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه.
إنه تحدٍّ حقيقي لكل الآباء الذين يحرصون على رؤية أبنائهم ناجحين في الدنيا، وفق كل معايير النجاح المادي والخلقي والإنساني، فائزين في الآخرة، كي يستطيعوا التأثير عليهم بمقدار ما يُثبت القيم والقواعد ويُعلم الآداب والأخلاق والأصول، وهو أمر ليس سهلاً نسبة لواقعٍ هذا وصفُه وشكله، خاصة إذا كانوا يعتمدون على أسلوب التربية بالقدوة فحسب، دون استخدام وسائل التسويق والترويج.
كثرة المعروض الوافد عبر الوسائط المختلفة، وحسن عرضه وتنوعه، جعل منافسته بالقدوة الحسنة التي يقدمها الوالدان مع الكلمة البسيطة فقط أمراً صعباً عسيراً دون شك، لذا فإن الآباء مدعوون الآن وأكثر من أي وقت مضى لقراءة علم التسويق، تسويق الأفكار والآراء والقيم، ليمارسوه في حياتهم المنزلية وبين أبنائهم وأهليهم، فالنموذج والقدوة على أهميته وعظم تأثيره لم يعد كافياً في مقابل تدفق من كل فضاء يكاد يملأ الأفق، والكل فيه يبذل أقصى ما يستطيع لإقناع الآخر بأحقيته وأهمية منتجه وضرورة الاقتناع به أو مزاولته، في مقابل نموذج للوالدين لا يخلو من بشرية وواقعية، فهو ليس ملاكاً، بل يسمو ويخفق، ويعلو ويهبط، مما يجعل المسؤولية أعظم والواجب أكبر.
وللقصة بقية، فهي دون شك مرتبطة بتعاظم أحجام الأنظمة والدول والهياكل في التأثير على الأفراد والمجتمعات، في اتجاه معاكس لأثر الأسرة والآباء، وهو اتجاه عالمي ترعاه جهات عدة تحاول إدارة شأن الأفراد بقوانين الجموع وعبر وسائل الإعلام، وهي لا تخلو من مخاطر على الخصوصية الإنسانية التي تحاصر قلاعها الواحد تلو الآخر.
إننا محتاجون حقيقة للانكفاء قليلاً نحو الذات ونحو الأسرة والبيوت، لمنحها مزيداً من الوقت والاهتمام والتأثير وحتى البروباغندا أو التسويق، سمِّه ما شئت، لعلنا نكون من ضمن المؤثرين الأوائل على الأجيال القادمة، بدل أن نتركهم نهباً للقادم من كل حدب وصوب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.