تونس.. علمانية من دون ليبرالية.. توجُّه سيجعل العالم يثق بمشروعنا ويحترمه

عربي بوست
تم النشر: 2018/09/01 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/01 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
نساء تونسيات/ رويترز

كل أُمة تتميز بخصائصها التاريخية، الثقافية والاجتماعية، مما يجعل كلَّ بلدٍ حديث نموذجاً لا يمكن استنساخه في بلد آخر؛ لذلك فإن بناء الدولة الحديثة يجب أن يرتكز على فلسفة سامية، تنبثق منها قيم الدولة وعقلية المواطن، كما أنها ستكون مرجعاً لسياستها العامة وخياراتها.

اعتماد قاعدة أيديولوجية، رغم قوة ذلك النموذج، لبناء منظومة الدولة والشعب الحديث لم يعد الخيار الأمثل في عصر العولمة. فالأنظمة الإسلامية أو الشيوعية مثلاً تعاني من عزلة دولية، وفي بعض الأحيان من عداء لها، ليس لأن الدول الرافضة لتلك الأنظمة ترفض الدين، أو أي توجّه أيديولوجي، إنما هي تعتبر تلك الأنظمة لا تتماشى مع الواقع الذي يعيشه العالم.

بالنسبة لتونس، وهي بلد فتيّ، وبه ديمقراطية في طور البناء، وجب اعتماد سياسة حكم تمكننا من استغلال كل طاقات البلاد، من دون تمييز عرقي أو أيديولوجي، وبرأيي العلمانية هي الحل الأنسب لتحقيق ما تم طرحه، وذلك لعدة أسباب:

أن العلمانية تحمل في طيّاتها قيمَ الانفتاح وقبول الآخر دون تمييز، وترتكز على احترام القانون، وفصل الدين عن السلطة، وهذا هو مفهوم الديمقراطية التي نحاول إرساءها في بلادنا. بالتالي ستكون الدولة مدنية بأتمّ معنى الكلمة، تخدم كافة شرائح المجتمع.

إن بناء الدولة على أساس أيديولوجي يحدّ من مستوى انفتاح الدولة على شعبها، فإن أقرَّت تونس على سبيل المثال أنها دولة إسلامية، فذلك يعتبر التزاماً ضمنياً أن الدولة ستسعى لخدمة فئة دون أخرى، وبالتالي فهو إقصاء وتمييز للمسلم على غيره، كما يعتبر ذلك أيضاً تكريساً لتطبيق الشريعة، واعتبارها المرجع الوحيد؛ لكن إذا نظرنا إلى تركيبة المجتمع التونسي فسنجده مجتمعاً علمانياً بامتياز، سنجد أن المسلم يتعايش بسلام مع جاره المسيحي أو الملحد دون كره أو احتقار، بل في بعض الأحيان نجد هذا التنوع في نفس العائلة، لكن ذلك الاختلاف العميق لم يكن حاجزاً بأن يتعايشوا بتفاهم واحترام. ذلك ما تؤسس له الدولة العلمانية من ترسيخ للمبادئ الكونية والقيم الإنسانية العليا، كالتضامن، والتسامح والاحترام، ولن يجد التونسي مشكلة في تقبل العلمانية؛ لأن تلك القيم مترسخة في عقيدته.

إن للدين أهميةً كبيرةً في الحفاظ على لُحمة المجموعة، ولتكوين قناعات الأفراد وتعليمهم القيم العليا، ليكونوا مواطنين صالحين،  وهو أيضاً حجر أساس العقلية والثقافة المتوارَثة.

إن الدين كان العقد الاجتماعي الأول لتنظيم الحياة الاجتماعية والمرجع الأساسي للتشريع، لكن الأنظمة وُجدت لكي تتطور حسب متطلبات العصر ومستوى وعي الشعوب، لذلك فإن الدين لم يعد يعطي المجال الكافي للدولة لاحتواء ذلك المجال الكبير من التنوع والحرية؛ لأنه بالأساس يحترم الجميع، لكن يميز المؤمن على غير المؤمن، وهذه التفرقة لها تأثير على الانسجام الاجتماعي واستمرارية الأمة.

لذلك خيار بناء دولة علمانية يمكِّن الأمة من الحفاظ على تراثها وتعزيزه بالقيم الحديثة. إن العلمانية أيديولوجية، لكن بمعنى أشمل فهي تحتوي التنوع الديني، وتستغله لبناء مجتمع متضامن يتشارك نفس القيم.

إن ترسيخ الفكر العلماني في مؤسسات الدولة سيخلق ماكينة عمل محايدة، تعمل لتحسين عيش المواطنين وضمان استمرارية الدولة، بالتالي ستكون مكسباً للأمة؛ لأنها ستقدم خدماتٍ للمواطنين باعتبارهم تونسيين، فوق كل اعتبار، وهذا سيخلق وحدةً وطنيةً، ويجدِّد الثقة بين المواطن والدولة.

على المستوى الاقتصادي، فإن تونس ليست معزولة عن العالم، بل ارتباطنا به شديد؛ نظراً للعوامل التاريخية والجغرافية، ولا يمكن الحديث عن علمانية من دون ليبرالية اقتصادية، واعتماد هذا التوجه سيعطي لدول العالم ثقةً في مشروعنا، وسيكون له انعكاس إيجابي على اقتصاد البلاد؛ لأنه سيخلق ديناميكية، يكون فيها المجال مفتوحاً للأفراد أن يبادروا فيها جغرافياً، أن تونس تعتبر نقطة تربط الغرب بالشرق، وثلاث قارات: آسيا، أوروبا وإفريقيا. فإن أردنا بناء إمبراطورية اقتصادية في المنطقة فإن العلمانية ستُعطي نفساً جديداً للمنافسة، مؤسسة لنظام ليبرالي يكون منفتحاً على العالم، ويحفظ حق الفرد في المبادرة والمشاركة في الحياة الاقتصادية وخلق ثروة للبلاد، إن العلمانية كما يجب تطبيقها ستحمي مصالح البلاد، ومن ثم تأطير السوق المحلية لضمان تنافسية الشركات التونسية ودعم القطاعين العام والخاص. هذا الخيار الاستراتيجي سيمكن من حل مشكل البطالة وخلق مواطن شغل جديدة وتمويل مشاريع الدولة الكبرى في مجال التعليم، الأمن والصحة.

العلمانية في تونس متجذرة في عقلية المواطن حتى إن لم يكن واعياً بذلك أو رفض الاعتراف به، فتاريخنا يظهر أننا شعب منفتح يقبل الآخر ويتعامل معه بكل انسجام واحترام.

مفهوم الأمة أكبر من كل أيديولوجية، والهدف هو استمراريتها والحفاظ عليها. الوطن أمانة متوارثة ويجب ترسيخ تلك القناعة. إن الدولة العلمانية ستعطي حرية أكثر للأفراد، وتخلق منظومة فعالة تخدم مصلحة الأمة العليا وهي بناء دولة حديثة يمكن أن تجابه التحديات القادمة.

إن حجة مناهضي الفكر العلماني تقتصر على الجانب الأيديولوجي، لكن هذه الحجة لم تعد مقنعة؛ لأن وعي المواطن في عهد العولمة يمكنه من اختيار عقيدته حسب قناعاته.

العلمانية التي أتحدث عنها ليست العلمانية الفرنسية أو الأميركية التي تبيح زواج المثليين على سبيل المثال؛ بل هي علمانية تتماشى مع المجتمع وتحترم خصوصياته، وخاصة أقلياته، فإن التزمت الدولة بذلك فلن يخاف الملحد أو المثلي من الوجود إذا التزم بحدوده ولم يحاول تهديد الانسجام الاجتماعي الذي خلقته العلمانية، وتبقى من أهم مهام مؤسسات الدولة الحفاظ على تلك المكتسبات وترسيخها للأجيال القادمة. إن العلمانية ستخلق المساحة اللازمة للمواطنين لاكتساب خبرات جديدة، وليكونوا أداة التغيير لتحقيق تلك الرؤية وبناء تونس الغد.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مالك السوسي
مواطن تونسي
تحميل المزيد