تقول الأسطورة إن راعياً شَرَعَ في الصلاة بينما خِرافه ترعى حوله، ولاحظ أنه كلما صلَّى ركعتين ماتت إحدى تلك الخراف، وكلما زاد في الصلاة زاد الموت في حصد أرواح قطيعه، لكن ما حدث لم يمنعه من إتمام تعبُّده، واستمرَّ على ذلك الحال إلى أن بقي عنده خروف واحد يثغو بقوّة خلفه، فنظر إليه الراعي مهدِّداً: بدّك تسكت ولا أصلّي ركعتين؟!
الذين نجحوا في الحكم عبر التاريخ هم الذين لم ينازعوا الآلهة مكانتها عند الناس مباشرة، وإنما خلقوا لهذه الآلهة وسيطاً أو "خليفة"، له كل سلطات وميزات الآلهة، ولكن بأسماء مختلفة ووظائف أخرى وصلاحيات أوسع!
ولهذا ستجد أن التسلسل لهذا الحكم على طول الزمن يبقى واحداً: إيجاد اسم للمعبود الوسيط ومنحه "رواية" تجعل صلته بالآلهة صلة أولى، ثم توجيه الاحتفالات والقرابين والدعوات إلى الوسيط وحده دون "الآلهة الأم"، ثم جعل الآلهة الجديدة تنطق بقوانين وقواعد الحاكم مبتدعها، وكنتيجة حتمية خلق "دين جديد" لا يمتُّ لأي دين أو إله بصلة، دين هلامي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، دين لا يمنحك الحرية المزعومة، وإنما يجبرك على أن تكفر به، وبكل ما سواه على شكل "كفر حرّ".
كانت البدايات، بداية فصل الدين عن الحكم التي أخذت تتضح معالمها في نهاية القرن الثامن عشر، في حصر "إقامة الله" في الكنيسة والمسجد، ثم سارت إلى حصر الدين في عبادتك الشخصية وعزله تماماً عن خارج صلاتك، ثم ربط الدين بصورة شخص متدين متطرف ذي سلوك جاهلي وحشي يعذب روّاد الكنيسة ويقتل مخالفيه على باب المسجد، وأخيراً تعميم نتيجة الشر على الموافق والمخالف على حدٍّ سواء، بكل صور الشر وأشكاله، لمنازعة الله سلطاته، ثم نزعها عنه وتسليمها لإنسان، بحيث يصبح كل شخص إلهَ نفسه.
ولكن كيف يكون الشر أداة لقتل الله حتى في عين العاقل الحليم؟
– الحروب والقتل الحر والدمار والظلم العالمي وانتشارها بشكل لا محدود ولا مفهوم الغرض يثير تساؤلاً واحداً: أين الله من كل ما يحدث في الأرض؟ من منطلق أن الله هو المسؤول عن الخطأ فقط والإنسان ليس مسؤولاً عن نتائج أعماله!
– شيطنة كل ما يتصل بالدين إسلامياً كان أم مسيحياً أم سواهما (شيطنة الإسلامي بربطه بالإرهاب والقتل والتعذيب وجعله على صورة قاتل "داعشي" فقط، شيطنة المسيحي بربطه بالتخلّف الحياتي والشذوذ الجنسي وجعله على صورة رجل الدين مغتصب الأطفال فقط).
– تفشّي المرض الذي ينتشر بفعل الغذاء المعدَّل والدواء المتاح لكثرة مصنّعيه أكثر مما ينتشر بفعل الفيروسات والبكتيريا والذي بدأ يخطف من أرواح "الفقراء" أكثر مما يفعل الله، مثلما يقول أحد الملحدين، والذي بات سبباً لـ"تطهير بشري" أو "هولوكوست إنساني"، يوفر الموت للجميع بسعر منخفض (سعر الغذاء السيئ وسعر الدواء الأسوأ المتوفران بكثرة مستفِزّة).
– الاستهلاك المَرَضي بكل أنواعه وأشكاله الذي بات يعني أن كل رغبة لك يمكن تحقيقها في الحياة، الدنيا، وأن لا حاجة يمكن تأجيل قضائها ولا رغبة يمكن كبتها أو تحويلها (بدءاً من استهلاك الأطعمة والأشربة مروراً بكل أدوات "الإراحة" والرفاه المنزلي ثم السياحة الخارجية إلى تجارة الجنس بأشكاله وموادّه وصولاً إلى التعذيب والاصطياد والقتل لأجل المتعة) فالجنة في الحياة، الآن وهنا، ولا حياة أخرى يمكن أن تحتوي أكثر من هذا النعيم!
– إهمال فكرة "تهديد الفناء" لكوكب الأرض ومَن عليه بفعل أحداث حقيقية "نفاد الموارد الطبيعية، شح الماء الصالح، التلوّث الجوي السُّمّي العالمي، الحرب النووية، الاحتباس الحراري..)، وليس فقط عدم العمل على إصلاحها وإنما عدم لفت نظر العامة لها أو تحذيرهم، وبالتالي فإن الناس ترى نتائج ذلك في حياتها اليومية دون أن تعرف له سبباً واضحاً!
– حصر وانحسار مساحة الثروة بشكل متسارع محموم لتتجمع في يد أقل عدد وأقل نسبة من الناس والمؤسسات في العالم.
– خنق الصوت العقلاني لمسؤول أو مفكر أو عالِم وتسليم ميكروفونات الإعلام والحكم لذوي "القدرة" و"الكفاءة" على التأكيد على كل ما سبق!
وكل ذلك يصبُّ في نقطة واحدة: التخلّص من فكرة هيمنة الله سيجعلك حراً ومن ثم تستطيع حلّ مشكلاتك، التي أنت ربّها، بنفسك دون رجوع لقاعدة أو نصّ وبالتالي لك أن تركض كالخيل بكل سرعتك وقوتك حتى تكسب السباق الذي سوف يميتك تعباً وقهراً وظمأً كنتيجة طبيعية عند خط النهاية، فأنت لم تحل مشكلتك وإنّما حلّلتَ الإنسان إلى عناصر خام أولية، ليس لها قيمة ولا مرجعية ولا قوة جمعيّة، يسهل القضاء عليها تماماً.
هذا فيما يخص الإنسان العالمي في كل مكان على الأرض، ولكن ماذا بشأن العربي الذي هو ضمنياً يمتصُّ كل صورة ونمط، الغربي منها خاصة، دون إرجاع ذلك إلى معيار اجتماعي أو خلفية فكرية أو قاعدة أخلاقية تَبَعاً لكل ما ورد أعلاه؟!
العربي البسيط أمره بسيط، كما العادة! فالإلحاد هنا "موضة" يباهي بها أقرانه ويتفاخر بحيازتها لا لسبب بعينه، فهو لا ينكر الله عن قناعته بشيء ما أو بخلافه، وإنما هي عنده مثلها مثل لبسه للجينز الممزق أو كتابته الكلمات العربية بأحرف إنكليزية.. لا أكثر!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.