مساحات شاسعة من الأبنية المترامية بواجهات منمّقة من القرن التاسع عشر. شوارع تغرق في صمت مهيب. أشجار تشرين عارية. هدوء غريب، مثقل بالتساؤلات، رهيب. سكون يملأ الفراغ بالفراغ. تمزّقه من حين إلى حين سيّارة مسرعة. صفّارة سيّارة الشرطة تولول مقتربة، وما تلبث أن تبتعد. المقاعد الفارغة كثيرة على متن الحافلة. سكوت مزعج. وجوم كئيب. محلّات فارغة من الزبائن. حوانيت مقفلة. صفّارة سيارة الشرطة تعود لتسحبك فجأة من شرودك الذهني. تترجّل من الباص. تسير على جادة مونبارناس، وهي المشهورة بدور السينما التي تعجّ عادة بمرتاديها أثناء ساعات الذروة في نهاية الأسبوع، إلّا أنّها لا تشبه نفسها اليوم. تلمح مجسّماً لجيمس بوند متأنّقاً ببدلته البيضاء، وربطة عنق الفراشة السوداء، يقف وحيداً خلف زجاج الأبواب الموصدة، لاستقبال مشاهدين لم يأتوا أصلاً.
تعرّج على حديقة اللوكسامبور التي تضمّ في حرمها مجلس الشيوخ، علّك تتنشّق بعض الهواء العليل، علّك توقف في رأسك، ولو لبضع دقائق، العرض المستمرّ لشريط الفظائع الذي لا ينقطع منذ ليلة البارحة. تتفاجأ بأنّ أبواب الحديقة تشبه اليوم أبواب دور السينما والمتاحف والمسارح، فكلّها موصدة. صفّارة سيّارة الشرطة تعود لتذكّرك بحالة الطوارئ التي أُعلنت منذ ساعات. يا لَسخرية القدر! كنت قد غادرت بلدك الأصل، منذ سنوات عديدة؛ لأنّك لم تعد تحتمل العيش في ظلّ حالة الطوارئ المستمرّة والقوانين الاستثنائية. فها هي تلاحقك اليوم بهلعها، ولو على بُعد آلاف الكيلومترات.
تدخل إلى السوبر ماركت.. وبما أنّك تأتي من بلاد اعتاد فيها الناس على التموين عند كلّ أزمة مستجدّة من الحروب اللامتناهية، تعود لك فوراً ردّات الفعل المؤصّلة في جيناتك المرعوبة منذ طفولتها، فتشتري وتشتري وتشتري، وتملأ قلقك وعربة التبضّع، حتّى الذروة، بلزوم ما لا يلزم. ولكن أين طابور الانتظار المعهود أمام الصندوق؟ تحاسب بسرعة. تخرج من جديد. وجوه قاتمة. عيون يملأها مزيج من القلق والتصميم على مقاومته والصمود في وجهه. بعض الأشخاص يبتاعون الصحف باستعجال من الكشك المجاور. ثلاث طاولات فقط مشغولة في كلّ المقهى. النادل في الخارج، يتّكئ على عمود الإنارة، يتثاءب ضجراً، يدخن سيجارته على مهل. نظرته تبتعد في الفراغ الكبير. ربّما يتساءل أين هم الأولاد الذين يلعبون عادة في زاوية الشارع؟ أين صراخ المراهقين الذين يتجمّعون كلّ مساء سبت قرب محطة المترو؟ برج إيفل غارق في العتمة. البرد يشتدّ. المدينة تضجّ باللاحركة. غصّة تملأ القلب اضطراباً. صفّارات سيارات الشرطة تملأ الرأس همّاً. طيف الموت وأشباح الليل تخيّم على مدينة الأنوار في ليلة هذا السبت الحزين.
أن تكون باريسيّاً اليوم، أنت المغترب من بلاد العرب، هو أن تعود إلى جذورك وماضيك. أن تكون باريسياً اليوم، هو أن تعود فجأة إلى تعاطي القلق الأمني، والإدمان على الهمّ من الغد المجهول، اللّذين يكتشفهما اليوم باقي الباريسيين. كنتَ اعتقدتَ لفترة أنّك قد تخلّصت من هاتين الآفّتين، إلّا أنّك كنت مخطئاً. كيف لا، وأنت قد أصبحت تعيش متشرذماً بين اتّصالات الاطمئنان؟ فليلة الخميس، قمت بالاتّصال بأقربائك وأصدقائك للاطمئنان عليهم بعد تفجير برج البراجنة، ومساء الجمعة، سرعان ما ردّوا لك الجميل.
أن تكون باريسياً اليوم، أنت المغترب من بلاد العرب، هو أن تشعر بوقع الفاجعة على مدينة شرعت لك أبوابها لاستقبالك بكرم. هو أن تحزن أمام مشهد أشباهك من الباريسيين الأبرياء يسقطون برصاصات الغدر، وأن تتضامن كلّ التضامن مع ذويهم. هو أن تأمل بأن يتمّ القبض على مَن بقي من الإرهابيين تحقيقاً للعدالة.
أن تكون باريسياً اليوم، خصوصاً أنت المغترب من بلاد العرب، يعني أن تعيش تداعيات الإرهاب الذي ضرب ملعباً رياضياً ومسرحاً فنياً وعدداً من المقاهي، بمرارة تميّزك عن باقي الباريسيين. فقد سئمتَ، عند كلّ عملية إرهابية، أن تكتب على صفحتك على الفيسبوك ترجمة الآيات التي تحرّم القتل وتنهى عن الغلوّ وتدعو إلى السلام، أو أن تنشر على تويتر الأحاديث التي تدعو إلى التسامح. فأنت، في بلاد قرينة البراءة، أصبحتَ في عقول الكثيرين، حتّى ولو لم يشكّلوا الأكثرية، مذنباً حتّى إثبات العكس.
فالتعليقات المتكرّرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الهمسات والأحاديث الجانبية في الأماكن العامّة أو حتّى الخاصة، تطالبك بلجاجة بالتبرّؤ علناً والإدانة الواضحة لما قام به الإرهابيون، وكأنّك مسؤول، ولو معنوياً، عن إجرامهم. فقد أصبحتَ موضع ريبة لم تعد صامتة، وشكّ يوخز كالإبر. كيف لا وأنت، حسب تفكير البعض، يكفي أن تنتمي إلى نفس ديانة أو جنسيّة مَن نفّذ الهجمات حتّى تكون مثلهم؟ أن تكون باريسياً اليوم، أنت المغترب أو ابن المغترب من دنيا العرب، رجلاً كنت أم امرأة، هو أن تعاني من غياب المنطق في أقوال البعض وتصرّفاتهم تجاهك، ومن تصفية الحسابات معك من قِبَل أشخاص أو أحزاب سياسية تتّسم بالعنصرية، وتريد التخلّص من وجودك بأي عذر، فما بالك لو كانت الذريعة كالأحداث الدامية الأخيرة؟
أن تكون باريسياً اليوم، هو أن تشاهد، على أثر الهجمات الإرهابية الأخيرة، تفشّي روح الإسلاموفوبيا في شرائح واسعة من المجتمع، وتزايد الاعتداءات ضدّ المسلمين والمسلمات، وضدّ لباسهم، وضدّ طعامهم، وضدّ رموزهم ومعتقداتهم، وضدّ مساجدهم. هو أيضاً أن تشعر بالأسى أمام الدعوات المتزايدة إلى إقفال الحدود بوجه لاجئي الحرب السورية، وذلك تحت ذريعتَي الخطر الأمني الذي يمكن أن تشكّله قلّة قليلة ممّن يتسلّل بينهم من جهة، وتهديدهم المزعوم للقيم الأوروبية وعدم قابليّتهم للاندماج في المجتمعات الغربية من جهة أخرى.
باختصار، أن تكون باريسياً اليوم، أنت العربي أو المسلم، هو أن تكون ضحية جانبية للأعمال الإرهابية التي يقوم بها رهط ممّن ضلّ من العرب والمسلمين.
أن تكون باريسياً اليوم، أنت المغترب من أصول عربية، هو أن تقف، في خضمّ هذه المعمعة، وفي حين أنّ أسماء الضحايا لم تعلن بعد، مدهوشاً أمام تلهّي البعض، سيّما في بلدك الأصل، بجدالات محتدمة ومستسهبة حول خدمة فيسبوكيّة لم يتمّ تشغيلها إلّا بعد أحداث باريس الأخيرة، أو حول أي عَلم يجب أن يوضع فوق صورة البروفايل على الفيسبوك. جدالات تبقى كلّها، على أهميّتها وأحقّيتها، ثانوية بالنسبة للخطورة الملحّة للمرحلة التي نمرّ بها، سيّما أنّها لا تقوم إلّا بزيادة طين الفرقة والتشرذم بلّة، في وقت نحن بأمسّ الحاجة فيه إلى الوحدة ورصّ الصفوف.
أن تكون باريسيّاً اليوم، هو أن تقف مصعوقاً مشمئزاً أمام كراهية الذين يستكثرون على الباريسيين أن يحزنوا لضحاياهم، أو الذين يشمتون بهم، ولو ضمنياً، ويلومونهم على ما يدّعون أنّه سياسات فرنسية خاطئة في سوريا، ويعظونهم بدروس مجانية في كيفية مكافحة الإرهاب.
أن تكون باريسياً اليوم، أنت العربي التائق إلى الحرية، هو أن يكون عليك أن تتحمّل المقولة التي بدأت تسود بقوّة، بأنّه لا بدّ من التحالف في سوريا مع شرّ ضدّ آخر بدل التخلّص من الشرّين، أي التحالف مع ديكتاتور دموي للقضاء على داعش. مقولة يروّج لها مَن يتناسى أنّ هذا النظام هو أصل البلاء في نشأة الإرهاب وتطوّره، ومَن يتغاضى عن حقيقة أنّ بقاء هذا النظام لن يزيد أمور الإرهاب إلّا سوءاً، ومن يضرب بعرض الحائط الآراء الحكيمة والواقعية والثاقبة من سياسيين مخضرمين كدومينيك دوفيلبان، أو صحافيين عانوا شخصياً من الأسر عند داعش كنيكولا هينان. أن تكون باريسياً هو أيضاً أن تتعجّب من فقدان استراتيجية سياسية لمكافحة الإرهاب عالمياً، بالتوازي مع التكتيك العسكري الذي يبقى، رغم كلّ الإمكانات، محدوداً وغير كافٍ للتغلّب على معضلة كالإرهاب.
ولكن أن تكون باريسياً اليوم، هو أيضاً وبالأخصّ أن تحافظ على رباطة جأشك، وأن تبتعد عن اليأس والقنوت. هو أن تتمسّك بطريقة حياة تميّز هذه المدينة، وتمتاز بحبّ الحياة، والانفتاح، والتسامح بين كلّ الجنسيات والإثنيات والألوان والديانات التي تؤويها. هو أن تستمدّ الأمل من ابتسامات التلامذة الذين عادوا الإثنين إلى مدارسهم. هو أن تستلهم التصميم من بريق عيون الطلبة الواقفين دقيقة صمت في السوربون بحضور الرئيس الفرنسي. هو أن تعقد العزم مع جميع الباريسيين على تمزيق جدران هذا السجن الكبير الذي أرادوا وضعنا فيه بإرهابهم، والحرب الأهلية التي أرادوا جرّنا إليها. هو أن تلفظ نظريات صراع الحضارات وأن تتمسّك بدلها بالحوار، رغم كلّ شيء.
أن تكون باريسياً اليوم، هو أن تقاوم الوجل والترهيب، وأن تنبذ التقوقع، كلّ تقوقع، وأن تتحلّى بالصبر، وأن تتسلّح بالرجاء كي تبقى باريس بوجهها الذي تعرفه.
أن تكون باريسياً اليوم، هو أن تبحر بين كلّ هذه الأضداد التي تميّزك، كي تلاقي نفسك، وتكون باريسياً غداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.