"كان نفسي أكون شاطرة عشانهم بس دي قدراتي!"
"ما بقوش يشوفوني، بقيت شفافة عندهم.."
"إذا كان أهلي ما بيحبونيش.. مين هيحبني؟"
"من وقت مانجحتش كل تصرف ليا مش مقبول"
في جلسة مع الرفاق، بدأ كُل مِنا يحكي.. وكان الحكي أشبه بعَبَرات فهي أبلغ الحكي الذي هو شفاء على أية حال، وهالني أننا نتفق في مُشكلةٍ واحِدة أصلُها واحد: عدم قبولنا لذاتنا بسبب قبول الآخرين لنا قبولاً مشروطاً فحسب. ليست المشكلة في قبول الآخرين لنا بقدر ما تكون في قبول أهلينا لنا قبولاً مشروطاً وفهمنا أن حبهم لنا حبٌ مشروط. مآسٍ وجدتُ لها صدى كبيراً في معظم تصرفاتنا وفشل علاقاتنا بمن حولنا بل وعلاقتنا بأنفسنا.
لا شكَّ أننا جميعاً حتى المتذمرين من معاملة أهليهم، الشاكين دوماً من قتلِهم قتلاً معنوياً وتعليق المشانق لهم على الدوام، لا شكَّ أنّا لو سُئلنا عن معنى الحب الخالص المُطلق لوجدناه في معنى حُب الأهل لوليدهم في السنة الأولى من العمر حيث الرعاية الكاملة والحب الكامل، حيث تقبل كل تصرفاته بل وكونها مصدر سعادة عارمة لهم، إيمانهم التام بأنه لا حاجة لتغيير هذا الطِفل هو مُتقن الخلق وجميل بالحالة التي هو عليها، محاولة تسديد كل احتياجاته دون أن يطلبها ودون أن يطلبوا منه تقديم أي مُقابل سوى أن يكبُر بسلام وأن يسمعوا منه كلمتي "بابا وماما".
هذا هو مفهوم الحب المطلق الخالص الذي يكون الأساس الداعم لكل منا ويسبب على الدوام شعور الأمن الداخلي.. حجر الأساس للبناء النفسي لنا، الذي ندين له إدراكنا معنى الحب الذي هو هنا حالة مستقرة ودائمة في العلاقة فمصدر تقبُّلنا لذاتنا ينبع بالأصل من تقبلهم وحبهم لنا، فنرى دواخلنا جديرة بالقبول والمحبة. ونفهم أن الحب داخلنا ينبع من طبيعتنا الخاصة.
إذن ثمة حلقة مفقودة بين هذا الحب العميق المطلق المتأصل الذي يحمله لنا آباؤنا وبين فهمنا واستيعابنا له، إذن بديهيٌ جداً أن تكون المشكلة في طريقة وصول هذه العاطفة.
ولهذا أسباب كثيرة علّ من أهمها منح الطفل كلما كبر أنواعاً من الحب المُشروط مهددة بالغياب بغياب الشرط؛ منها على سبيل المثال ما يؤثر في وطننا العربي بشدّة بسبب ثقافة معيّنة مُفادها أن المواطن الصالح "المحترم" من طبقات المجتمع والمؤثر بها هو المُتفوق "دراسياً" العالم الفذ أو القائد المغوار، فنجد الطريقة التي يستخدم بها الآباء حاجة أبنائهم في المحبة قد اعتمدت على التشجيع والتقدير والإعجاب ـ وهي بالأصل احتياجات هامة أيضاًـ لكنها تستخدم كوسيلة ضغط للتشجيع للوصول للنموذج الذي يتمنون كونه عليه، بغض النظر عما هو عليه أصلاً، قدرته ورغباته وأمنياته.. فيُقال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بكلام أو فعل أو إيماءات: "سأحبك إذا كنت متفوقاً، من الأوائل.."، أو حتى في أمور أخرى كحثه على أن يكون سلوكه بطريقة ما، منظماً، نظيفاً بل وتصِل إلى طمسِ جوانب الإنسانية به كنهره عن البكاء بقول مثلاً: "لا أحب الأطفال الذين يبكون"!
كلها ممارسات خاطئة وغيرها الكثير مما تُعطي دلالات ومعاني تشوّه دعائمنا الأصلية عن كون شخصياتنا مُقدرة وجديرة بالحب أياً ما كانت، ممارسات تسهم بطريقة أو بأخرى في كراهية الفرد لنفسه وتهديده طوال الوقت وعدم استقراره خوفاً من أن يفقد القبول والمحبة، فالفرد منا طفلاً كان أو مراهقاً أو كبيراً يافعاً يحتاج أن يُحس الأمان في كونه مقبولاً أياً ما كان وهذا يُعين أكثر وأكثر على التطور والتقدم والإنجاز بل وتعديل السلوك أكثر بكثير من التحكم في نتائج سلوكه، يحتاج أن يعرف أن هناك أحد المضمون قبولهم له وحبهم له، وأن تصله هذه العاطفة خالصة صافية مطلقة، ما يقوي ويشبع جوانب حساسة في تكوينه النفسي والعقلي.
نعم..
نحن كلنا بحاجة لأن نعرف أن آباءنا يقبلوننا كما نحن بعيوبنا وميزاتنا، زلاتنا ونجاحاتنا، يقبلون أسئلتنا الكثيرة المُملة وانزواءنا حين تهرب منا الإجابات، يقبلون منا صخبنا واضطرابنا، في لحظات قوتنا وضعفنا.. نحتاج أن يحبونا لأجلنا نحن لا لأجل ما نفعله أو نقدر على فعله. ولدنا هكذا بشخصياتنا بقدراتنا فلا جدوى من الضغط ووضعنا بقوالب ليست لنا، رُبما يكون نموذج الفرد منا أفضل بكثير من هذه القوالب المتكررة المتشابهة كلها.
نحتاج أن نفهم أنهم يستحسنون وجودنا ولو جلبنا بعض المتاعب وأن لدينا شوقاً نحن أيضاً إلى أن نكون ونحتاج منهم الأمان الحقيقي بقبولنا ودعمنا وحُبنا بلا شروط فيصِل احتواؤكم لنا بضمّة أو عناق أو ربتاً على الكتف يُشجعنا فنمضي، وحين المضي تقبلون خطأنا فنصفح نحن عن ماضينا ـ ومنه سنصفح حتى عن ماضي الآخرين ـ ونعالج استياءات الماضي بل ونرى الهبة الكامنة في الأحداث الماضية التي كنا نشعر بالغضب منها ومن الممكن أن نخلق نحن سياقاً مختلفاً نرى من خلاله الماضي وبالتالي نعالجه، تقبلون طبيعتنا الخاصة فتسمحون برحيل شعورنا بالذنب الدفين المؤذي الذي طالما لام محركاتنا الأساسية فيمكن حينها أن نستمتع بحاجاتنا البشرية دون نفور منها أو إرضاء الذات القهري فنتمتع بحرية أن نوجد في الحاضر بلا أسف على ماضٍ ولا خوف من مستقبل فنعيش حقاً.
نحتاج أن يصِل هذا كله، ويعالج غيابه بقولٍ أو ضمّة دون خجل، فنصل للسلام والاستقرار النفسي الذي يُغني عن استجداء المحبّة لملء فجوات الفقر العاطفي ونسهم في إيمان الفرد منا بنفسه ورؤيته لها جديرة بالقبول والحب، فالإنجاز أياً ما كان وفي هذه الحالة سنتميز بتحمل المسؤولية ونأخذ موضوع نمو وعينا وإدراكنا لذاتنا بجدية ويزيد اهتمامنا بما الذي سنصير عليه ونقبل بتحدي تحقيق أعظم إمكانياتنا الداخلية والاهتمام أيضاً بإمكانيات الآخرين وأحلامهم دون التقليل منها لكسبِ الظهور والحب والقبول، ونحقق ذواتنا فحسب ونستمتع بإنجازاتنا دون أن يُراودنا سؤال: "هل سيحبونني إذا لم أفعل كذا؟".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.