- تدقيق السؤال
قبل أن نخوض في الإجابة عن السؤال: "هل يمكن أن نرغب في المستحيل؟"، لا بد لنا أن نوضح نوعية السؤال، ودلالته.
فالسؤال يبدأ، بأداة الاستفهام "هل" التي تحتمل إجابتين إما إجابة بـ"لا" أو إجابة بـ"نعم"، فإن كانت الإجابة هي لا قلنا إنه لا يمكن أن نرغب في المستحيل، أما إن كانت الإجابة هي نعم، فسنحصل على هذه الجملة "نعم يمكن أن نرغب في المستحيل".
- تدقيق المصطلحات
أضف إلى هذا أن السؤال يتضمن ثلاثة مصطلحات مهمة وهي: "يمكن" التي يشتق منها مصطلح "الإمكان"، الذي يعني احتمال الوجود أو احتمال عدم الوجود. ثم لدينا مصطلح "نرغب" الذي اشتق من كلمة "الرغبة" وهي قوة داخلية تقوم بتحريك الكائن الحي إلى هدف معين. ثم لدينا المصطلح الثالث وهو "المستحيل" الذي يعني عدم الوجود بالمطلق. وبفلسفة أرسطو، لا يمكن انتقاله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
إذا أردنا تدقيقاً في مصطلح المستحيل، يمكننا أن نضعه في ترتيب مع كلمتين، نقيضتين له. وهي الضرورة والإمكان. لنحصل على الترتيب التالي، الضرورة ثم الإمكان ثم المستحيل. فالضرورة هي التي لا يقبل وجودها العدم بل إن وجودها لا بد منه. يعني يجب أن يوجد، فواحد زائد واحد لا يساوي اثنين بالاحتمال، وإنما "يجب أن يُساوي اثنين، يعني لا يقبل احتمالاً آخر. أما المستحيل فهو الذي لا يقبل الوجود، لكن عدم وجوده ليس ضرورياً. وهنا نطرح سؤالاً، إذا كان المستحيل لا يقبل الوجود، وعدم وجوده ليس ضرورياً، فهل يمكن أن يوجد هذا المستحيل؟
قدمنا سابقاً تعريفاً أرسطوطالياً للمستحيل، وهو أنه لا يمكن انتقاله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. فماذا نقصد بهذين الوجودين؟
إن الوجود بالقوة بمفهومها الفلسفي هو الوجود الذي لا يوجد في الواقع المحسوس، لكنه يقبل أن يوجد في هذا الواقع. فهو وجود لا واقعي، يوجد في عالم مفارق لعالمنا (كعالم المثل عند أفلاطون مثلاً) له إمكانية أن يوجد في أية لحظة. أما الوجود بالفعل فهو وجود يكون داخل الواقع المحسوس، نحس به بواسطة حواسنا أو بإحداها. فمثلاً شجرة التفاح في فصل الشتاء، تكون خالية من ثمرات التفاح، فوجود ثمار التفاح في الشجرة في هاته اللحظة هو وجود بالقوة، ولكن عند حلول فصل الصيف، ستُثمر الشجرة فتخرج منها ثمرات التفاح، فيصبح وجودها في هاته اللحظة وجوداً بالفعل.
إذاً، انطلاقاً من تعريف هذين المفهومين، نجد أنفسنا نقف أمام السؤال الذي سألناه قبلاً: "هل يمكن أن يوجد هذا المستحيل؟"، يعني هل يمكن أن يتحول من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل؟
- المستحيل والإنسان
إن لفظة المستحيل عند الإنسان تحتمل معنيين: إما أنها تعني أي هدف لا يوجد أمامه (أي أمام الإنسان) الآن ويبعد عنه بمسافة كبيرة (إما مكانياً أو زمانياً) ويعلم أنه صعب التحقق بينما يمكنه أن يتخيل تحققه في عقله نظراً لاهتمامه به. و إما أنها تعني أي شيء يتجاوز الوجود الواقعي، حيث إنه لا وجود لها في الواقع، ويتساءل عن إمكانية وجودها أو لا. فإما أن يجيب بمستحيل أو أن يجيب بممكن أو أن يجيب بيجب أن تكون (الضرورة). يعني المستحيل هنا يتعلق بأمرين إما بتحقيق غاية أو بوجود شيء.
إن عدنا للسؤال الذي من أجله كتبنا هذا الموضوع، فإنه يتحتم علينا أن نتحدث عن لفظة المستحيل بالمعنى الأول؛ لأننا ربطناه بمصطلح الرغبة، فالإنسان يرغب في تحقيق الهدف ولا يرغب في وجود الشيء إلا إذا كان مرتبطاً بتحقيق هذا الهدف.
- المستحيل مصطلح استراتيجي
قلنا إن لفظة المستحيل بهذا المعنى، هي أي هدف لا يوجد أمام الإنسان في هاته اللحظة، حيث يبعد عنه بمسافة كبيرة (إما مكانياً أو زمانياً) ويعرف بأنها صعبة التحقق بينما يمكنه أن يتخيلها في عقله؛ نظراً لاهتمامه بها. وهذه الجملة الأخيرة مهمة بالنسبة لسؤالنا، أقصد جملة: "نظراً لاهتمامه بها".
إن الاهتمام بهدف ما ينبع من رغبة داخلية فيه، وهنا سنعود إلى سؤالنا: "هل يمكن أن نرغب في المستحيل؟".
إن طموح الإنسان يجعله يتجاوز ما يملك، ويرغب في ما لا يملك، ومن المفارقة المثيرة للسخرية هنا، هو أنه يهتم بما لا يملك أكثر من اهتمامه بما يملك، يعني أن اهتمامه دائماً منصبٌّ على الأمور التي تكون خارج نطاق التحقق الذي يملكه. محاولاً أن يجعل كل شيء متحققاً في نطاقه، وهذا ما يضطره لأن يرغب في أي شيء يمكن أن يتحقق. فهل المستحيل من هاته الأشياء؟
كما قلنا سابقاً تبقى لفظة المستحيل تتعلق بعدم وجودها هنا والآن، وبُعد مسافتها (إما المكانية أو الزمانية) وأيضاً صعوبة تحققها مع إمكانية تخيل تحققها.
فالمحاولات التي يقوم بها الشخص، لتحقيق شيء ما (وهو هدف) في نطاق ملكه، يجعله ينعت هذا الشيء بالمستحيل إن تعددت المحاولات وتكرر الفشل لتحقيقه. يعني أن لفظة المستحيل تُنطق عندما يكثر فشل الوصول إليها. إذاً يأتي المستحيل بعد محاولات تحقيق الرغبة، أو بعبارة أخرى، يأتي المستحيل ككلمة بعد تكرار فشل إشباع الرغبة خلال المحاولات المتعددة لتحقيقها.
فهل هذا يعني أنه لا يمكن أن نرغب في المستحيل؟
إن نعت الشخص لهدف ما، بأنه مستحيل، يعني اعترافاً ضمنياً بعدم إمكانية تحققه في نطاق ملكه، أي أن هذا الاعتراف يدل على أن الشخص يؤكد أن هذا الهدف لن يتحقق أبداً، لهذا لا عقلانية في ملاحقته، أي أن الرغبة فيه ستكون ضرباً من العبثية.
إذاً، نلاحظ أنه منذ الوهلة الأولى، التي يُطلق أثناءها الفرد على الهدف لفظة المستحيل، تضمحل الرغبة في ملاحقته. وهذا يعني أن تقييم الهدف على أنه مستحيل أو ممكن هو الذي يعطي للرغبة إما مبرراً لتركه أو مبرراً لملاحقته.
فكلمة المستحيل إذاً تبقى مجرد تقييم يصطنعه الإنسان، حتى يُبرر عدم رغبته في ملاحقة هدف ما.
من هنا، نرى أن الإنسان يمكن أن يرغب في أي شيء، لكن لا يمكنه أن يُحقق كل شيء، لهذا يقوم بتصنيف الأهداف في عالمه الرغائبي بين الممكن والمستحيل، ليحدد الهدف الذي سيُحاول تحقيقه والهدف الذي سيتركه جانباً. وانطلاقاً من هذا، نلاحظ أن مصطلح المستحيل ليس مصطلحاً ثابتاً موضوعياً، وإنما يرتبط بشعور الإنسان بقدرته، يعني أنها لفظة استراتيجية أكثر منها أنطولوجية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.