التعبير عن النفس هو رد فعل طبيعي للدفاع عن استمرارية الوجود، وهو أيضاً من الصور الصحيّة لمشاركة الوجدان، والحس مع الآخرين.
من هنا سألني أحد أصدقائي: "ولكن كيف إذا لم تكن هناك طريقة للتعبير عما يحدث بداخلي؟ فأنا لا أمتلك موهبة الكتابة، وكلما حاولت أن أكتب جملة أو جملتين فشلت في ذلك، صوتي سيئ للغاية، وأحب الرسم لكني لا أستخدم قواعد الفن الصحيحة، فأُخرِّج لوحةً عبثيةً لا تُعجِب الآخرين، لا أمتلك أي موهبة، لم يمنحني الله أي وسيلة للتعبير عن نفسي، أنا فارغٌ من كل شيء!، وسأموت من فرط شعوري بالغربة، وتدفق المشاعر داخلي يوشك أن يقتلني".
هل فعلاً يوجد إنسان على وجه الأرض لا يمتلك أي مواهب؟ هل خلق الله الإنسان بهذه التعقيدات، ولم يعطِه أي وسيلة للتعبير عن كل هذا؟
هل تكمن المشكلة في طبيعة الخلق؟ أم تكمن في الطريقة التي يعبر بها الناس عن أنفسهم؟
"مملكة الفن، المملكة الوحيدة المفتوحة لك"
"درست قوانين الفن دراسة جيدة، ولكني لا أمتلك أي عمل من الأعمال الفنية، ثم إن قوانين الفن لا وجود لها إطلاقاً لأن الفن إنما يكون فناً، لأنه لا يخضع لأية قوانين"، أما البشر فهم على عكس الفنون يخضعون لقواعد، وإلا قيل إن الناس فوضى، كل واحد منهم ضد الآخر.
هكذا قال بطل رواية "المستعبدون" للكاتبة النمساوية ألفريدة يلينك يُدعى "راينر"، هو ليس شخصاً فوضوياً، ولكنه يعرف كيف يوظف فوضويته فيما يتناسب مع إحساسه، وتملي عليه روحه، وفيما يستطيع أن يحقق له التوازن الحي الذي يرجوه. "راينر" وجد أن الفن إذا تم حصره في قوالب سيموت! لم يستطِع أن يوازن بين طريقة إخراجه لمشاعره كما يرى وكما يفرضها عليه الآخرون، فقوانين الفن تحاصره من كل اتجاه، وحاجته المُلِّحة في إخراج مشاعره تسبب له الكثير من الآلام.
ليست إجابات ولكنها محاولات للفهم
المشكلة الحقيقية تكمن في تعريفنا لأنفسنا، هناك خللٌ قويٌّ في إدراكنا للأشياء، والإدراك يأتي من الداخل، لقد تعوّد الناس على أن يتبعوا الآخرين دائماً، القيود مفروضة من داخلهم، وأكثر القيود الموجعة هي تلك التي تُقيّد المشاعر، وتهدد الوجود الإنساني، وتَفرِض عليك أن تتبعها رغماً عنك. إن أرقى ما يمتلك الإنسان هو مشاعره، وإذا لم يستطِع أن يوظفها فيما يتناسب مع وجوده بصورة سليمة، سيشعر بالضياع، وستفوح منه رائحة العذاب.
إن البشر تعودوا على أن يخضعوا لقوانين، حتى حينما تجتاحهم الرغبة في التعبير عن مشاعرهم، أرى كثيراً من الموهوبين يمتنعون عن الكتابة كوسيلة للتعبير عن المشاعر لعدم تمكنهم من مفاتيح اللغة، وخوفهم من آراء الآخرين بهم، وأرى كثيراً من أصحاب الخيال الخصب يمتنعون عن إخراج عبثهم الداخلي؛ لأن ذلك لا يتناسب مع قوانين الفن!، ولأن ذلك ربما لن يعجب الدارسين.
"ولكنها مجرد تجليات لبروقٍ كامنةٍ، يسرّني بهمسها شعوري بالأمان، حينما يشتد بي شوق الألوان، أنغمر فيها ولهاً، وأذري كالعاشق نشوتي فوق مساحة اللوحة".
– الفنان التشكيلي شوكت الربيعي.
إذا كان لا بد من وجود قواعد تتحكم في إنتاج أي عمل فني، فلن تكون هناك أعمال فنية إبداعية في المستقبل، سوف تنقرض؛ لأن الإبداع ليس حكراً على أشخاص معينة، ولا تستطيع أي قواعد أن تحكمه، الإبداع يكمن في رؤيتك الخاصة، وقوانينك المختلفة، ضَع أنت القوانين، واخرق القواعد جميعها، وعِش التجربة بكل فوضويتها، وفي غمرة كل هذا الجنون، سوف تكون أنت القطعة الفنية التي تضيف إلى هذا العالم معنى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.