ارتديت بدلة زفافي دون حذاء .. قصة مغادرتي أنا وأهلي لشقتنا المحاصرة

عدد القراءات
953
عربي بوست
تم النشر: 2018/08/30 الساعة 13:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/30 الساعة 13:17 بتوقيت غرينتش

ألوّح بيدي بقوة عبر نافذة السيارة وأنا أقود بحذر بالغ محاولاً أن أوضح للمتقاتلين أنني مدني لا أنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك..

إشارات الطوارئ الأربع في السيارة تعمل بقوة، صوتها كأنه دقات قلبي المرتجف.

أراقب سيارة أخي في المرآة  وهو يلحق بي في حذر أكبر وسط أصوات رماية كأنها تأتي من كل مكان، كل ما أتمناه حينها ألا أكون هدف هذه الرصاصات القادم.

هي أصعب اللحظات التي مرّت عليّ في حياتي.

لحظة خروجي مع أهلي من شقتنا بعد أن تحولت المنطقة إلى ساحة قتال عنيف دون رحمة ولا شفقة.

قرار كان علينا أن نتخذه أنا وأخي الأكبر بعد أن حوصرنا في شقتنا ثلاثة أيام سمعنا وشاهدنا فيها كافة أنواع الأسلحة حتى الدبابات والطائرات.

انقطعت الكهرباء عن المنطقة وتلقائياً تبعتها المياه، كل المحال التجارية مغلقة بالطبع وانقطعت الحياة تماماً وصرنا معزولين عن العالم.

البقاء في الشقة بات مستحيلاً، والخروج وسط وابل الرصاص وقذائف الطائرات ليس يسيراً!

أكثر ما كان يخيفني أن يُصاب أحد من عائلتي بمكروه جراء هذه المجازفة، ولو حدث ذلك فإنه لن يكفيني الزمن بأكمله للتعبير عن ندمي لاتخاذي ذلك القرار.

أصوات الرماية تزداد فترة وتتوقف فترات أخرى، نسير ببطء خوفاً من أن تحسب السرعة على أنها عملية عدائية فتتوجه إلينا فوهات البنادق وتحصدنا الرصاصات حصداً.

أبداً لم يكن الأمر هيناً..

وبعد دقائق – مرت وكأنها ساعات – وصلنا إلى بوابة يقف عليها أحد طرفي القتال، ينظر إلينا أحدهم في قلق وإصبعه يرتعش على زناد سلاحه "الكلاشنكوف"، وجهه يتصبب عرقاً وملامحه تدل على سنوات عمره القليلة.

يتفحص في قلق وجوهنا وكأنه يبحث عن شخص ما بيننا، زميله يتكـئ على حائط بجانب البوابة ويتخذه ساتراً واضعاً كلتا يديه على رأسه من فرط الإرهاق، لم ينظر إلينا وربما لم يشعر حتى بوجودنا.. قبل أن يسمح لنا رفيقه بالمرور وهو يتابعنا بنظراته المتوترة حتى ابتعدنا عن بوابته.

أراقب في المرآة مباني منطقتنا وهي تبتعد تدريجياً حتى اختفت عن ناظري نهائياً.

غادرنا تاركين خلفنا أغلب مقتنياتنا، ولا أستطيع قول ذكرياتنا لأننا انتقلنا حديثاً لهذه الشقة، لكننا تركنا استقرارنا وخصوصيتنا.. غادرنا مرغمين بحثاً عن مكان آمن يقينا شر هذا القتال.

أنظر إلى طاقم زفافي -بدلة العرس- وما تمكنت من أخذه معي في آخر لحظة وأنا أغادر الشقة، فأتذكر أنني تركت خلفي حذائي الجديد المخصص ليوم زفافي الذي كان من المقرر أن يكون الأسبوع القادم قبل أن يشعل هؤلاء تلك الحرب الشعواء.

بدلة زفاف دون حذاء! مشهد لم يراودني حتى في أعتم كوابيسي.

ليت الأمر توقف عند الحذاء، تركنا كل شيء ملابس وأثاثاً و.. وحتى مكتبتي التي أحرق أخي جزءاً منها فيما بعد خوفاً من أن يعتقله المنتصرون على خلفية أسماء بعض مؤلفيها!  

كنا نأمل بأن يتوقف القتال بعد أيام كما حدث في أوقات سابقة لنعود إلى بيتنا من جديد.

لكن الأيام مرّت والقتال لم يتوقف، بل ازداد ضراوة، وذهب حلم العودة أدراج الرياح.

غادرت مدينتي إلى المجهول.. غادرتها برفقة زوجتي الحبيبة الصابرة المحتسبة دون حفل زفاف، ومن أمامي أمي الغالية وبقية أخوتي.

لم أترك ورائي بيتي فقط، بل كل شوارع وأحياء مدينة ترعرعت وعشت في أكنافها ثلاثين عاماً ونيفاً، ابتعدت مُجبراً وظلماً عن أصدقاء ورفقاء العمر، بعضهم لم أره مجدداً حتى كتابتي لهذه الأسطر.  

حينها فعلاً أيقنت واستوعبت كلمات الإمام الشافعي حين قال:

تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلا………….. وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تَفَرُّج همٍّ، واكتساب مــعيشة………………………. وعلم، وآداب، وصحبة ماجد

فإن قـيل في الأسفار ذُلٌّ ومحنـة…………………. وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد

فـموت الـفتى خير له من قيامه………………..بدار هوان بين واشٍ وحـاسد

 

 

 

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عماد المدولي
صحفي ليبي