لم أشعر بالحسد تجاه المواطن الأميركي إلا هذه الأيام وهو يتمتع بكل عوامل كسر حاجز الرتابة والملل، محتضنا عبوة فيشار ذات حجم عائلي كبير فوق أريكته المريحة، بينما تطل عليه كوميديا ترمب المختلطة بدراما انتخابات الرئاسة الأميركية الماضية عبر شاشة شبكة قنوات CNN, ABC, NBC, CBS أو بين صفحات الجرائد التي وجدت كلها الفرصة سانحة ترقص على طبق من فضة كي ترد على مواقف ترمب المسيئة تجاه وسائل الإعلام وتغريداته الطفولية المهينة على تويتر.
على الرغم من أن القصة متشعبة تتفرع خيوطها كشبكة عنكبوت ضخم، لكن كل شيء يبدأ وينتهي عند شخص واحد يملك طرف الخيط منذ البداية حتى النهاية.. عند جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، المبيد الحشري الذي استخدمه ترمب لإزاحة منافسته هيلاري كلينتون من حلبة السباق عندما خرج كومي بتقرير يفيد احتمالية تورط هيلاري مع مسؤولين روس في اتصالات رسمية قد تسبب ضرراً للأمن القومي الأميركي.
تعود القصة إلى الشكوك التي دارت حول تواطؤ المرشحة الديمقراطية السابقة لانتخابات الرئاسة الأميركية في سيطرة جهات روسية على إحدى شركات اليورانيوم التي تملك حصصاً في مناجم يورانيوم تمتد من وسط آسيا حتى غرب أميركا، مقابل تلقي أموالٍ في صورة تبرعات سرية للمؤسسة الخيرية التي تديرها وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون.
ورغم أنه كان من الطبيعي بعدها هبوط شعبية كلينتون إلى الحضيض وأن تخرج من الانتخابات وهي تلعق مرارة الهزيمة أمام منافس كانت فرص وصوله إلى البيت الأبيض أضحوكة، فإن الشيء الغريب هو خروج كومي بعدها مرة أخرى وبعد انتهاء الانتخابات لينفي صحة ذلك التقرير بالإضافة إلى إصراره على الاعتذار الشديد لكلينتون.. والأغرب هو إقالة ترمب له بعدها من FBI.
بالتأكيد لم يتوقف الأمر عند هذا الحد.. لم يكن الفضل في ذلك فقط لحماقة ترمب المعهودة، أو للعداوة التي ألهبت صدر كومي فخرج مرة أخرى متهماً ترمب بأنه أصدر إليه أوامر صريحة ومباشرة بوقف التحقيقات بشأن التدخل الروسي بالانتخابات أو لنشره كتاباً اجتهد في حشوه بكل ما يدين ترمب من اتهامات.
فقد كان هناك من الدراما ما يكفي لجعل فتيل الأحداث يشتعل أكثر وأكثر بصورة سريعة متلاحقة لدرجة حبست أنفاس المشاهدين بطول أميركا وعرضها.
تم تعيين المحقق روبرت موللر من قبل الكونغرس للتحقيق في الاتهامات التي طالت ترمب بقوة قبل أن تخرج كلمات مدير CIA السابق كالرصاص مشيرة إلى وجود علاقة خفية مستترة بينه وبين الروس.
توالت بعدها توابع زلزال الاتهامات التي دفعت مؤشر مقياس ريختر للفضائح إلى الصعود نحو القمة جنوناً.
الحديث عن فضيحة جنسية واحدة في المعتاد معناه أن هناك مناصب تطير وأسماء سياسية يخبو نجمها ويختفي أصحابها تماماً من الساحة.. أما مع شخص مثل ترمب فيمكنك أن تبدأ دون أن تنتهي من السرد.
بداية من ستورمي دانيالز، ممثلة أفلام البورنو التي أخذت تشرح تفاصيل علاقتها الدافئة بترمب قبيل الانتخابات، العلاقة التي دفع مايكل كوهين، محامي ترمب الغالي والنفيس، حتى يخفيها، لكن عدد القنوات والبرامج التي استضافتها لرد جميل ترمب لم يترك فرصة حتى إخفاء ماركة ملابس ترمب الداخلية.
على غرار سيناريو البهوات والخدم في الأفلام المصرية القديمة.. ظلت قصة وجود طفل غير شرعي من علاقة آثمة بين ترمب وإحدى خادمات برجه التجاري الشهير المسمى باسمه طيّ الكتمان لسنوات طويلة بعد أن دفع محاميه أموالاً طائلة لإخفاء الأمر إلى أن أصبح الخبر مؤخراً حديث الصحافة ووسائل الإعلام كعادة فضائح ترمب.
بخلاف ليالي ترمب الحمراء وبالتوغل قليلاً في المياه الضحلة لبحر السياسة هناك قصة جورج نادر، رجل الأعمال الأميركي من أصل لبناني الذي رتب لقاء جمع بين ترمب وبوتين في سيشل، كان من المفترض أنه سري أيضاً قبل أن تفوح رائحته فتبلغ عنان السماء.
وقعت بعدها في أيدي رجال CIA أدلة شرعية قوية لا مجال لدحضها تؤكد إدارة الحكومة الروسية بأوامر مباشرة من بوتين لعملية قرصنة واضحة للرسائل الإلكترونية واختراق البريد الإلكتروني الشخصي لجون بوديستا، مدير حملة كلينتون، وإحالة محتواها إلى ويكيليكس بغرض تحجيم فرص كلينتون في الانتخابات.
لم تتوقف فضائح التأثير على الرأي العام الأميركي عند هذا الحد، فهناك شركة "كامبريدج أناليتيكا" التي اخترقت قاعدة بيانات مستخدمي فيسبوك للتأثير على نتيجة الانتخابات فكانت النتيجة خسارة سوقية بمليارات الدولارات لفيسبوك وإحراج شديد لمارك في جلسة استماع أمام الكونغرس خرج منها معترفاً بالذنب بجانب الاعتذار للشعب الأميركي.
لقطة الأكشن في هذا الفيلم كانت اللقطة الأخيرة.. اللقطة التي أخرجها المحقق موللر ببراعة وأداها المحامي مايكل كوهين بشجاعة الفأر الهارب من السفينة قبل الغرق في آخر لحظة.
ففي تطور دراماتيكي للأحداث رتب مايكل كوهين صفقة مع موللر للنجاة بنفسه واعترف بكل شيء على ترمب.
بالتأكيد نال كوهين بعدها نصيباً وافراً من هجوم ترمب لم يردعه عن استكماله سوى خروج كوهين فجراً متوعداً ومهدداً بقلب الترابيزة فوق رأس ترمب وكشف المستور عن باقي المعلومات التي لديه.
في نفس ذلك اليوم أدين بول مانافورت، مدير حملته الانتخابية، بالعديد من التهم قد تؤدي لممارسة التريض في السجون الأميركية لمدة 10 سنوات قادمة على الأقل بسبب الاحتيال المصرفي والضريبي.
الحديث الدائر حالياً في الأوساط السياسية بالولايات المتحدة هو اتجاه المسار نحو اتخاذ الإجراءات القانونية لعزل ترمب، بينما هذا الأخير مازال يقاتل من أجل البقاء حياً.
هل يصبح ترمب هو جورباتشوف الإمبراطورية الأميركية التي جاء عليها الدور لتسقط في مستنقع التقسيم الذي تجرعته روسيا من قبل؟!
لمن الغلبة؟ هذا ما ستسفر عنه الأحداث في الأيام القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.