"حاولوا إيقاظَه.. فوجدوه ميتاً" هذه الجملة تكرَّر ربما على مسامع معظمنا، فقد تُفاجأ بها من زوجتك، تحكي لك عن جارك الذي فارق الحياة، قائلةً لك: "بيصحّوه لاقوه ميت! – أي حاولوا إيقاظه فوجدوه ميتاً". تتملكك الدهشة لبضع دقائق، وربما يمرُّ الأمر دون أدنى اعتبار من جانب البعض، وقد تُتبعها بقولك: "كلنا سنموت"، ثم تقوم لتمارس حياتك الطبيعية، وكأن شيئاً لم يكن.
لكن هذه الجملة تستوقفني كثيراً، متأملاً نفسي، وكيف تكون نهايتي لو أنها قِيلت عنّي في يوم من الأيام.. ماذا يكون حالي؟! لم أجد جواباً لذلك إلا بالاستعاذة من موت الفجاءة، الذي ربما صار يُداهم الكثير منا، فلا فرق فيه بين صغير أو كبير.. أو مريض ومُعافَى.. "فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" (سورة الأعراف: 34).
أعتقد أننا جميعاً نتفق على أن الموت يأتي بغتة، وأنه ليس له وقت معلوم، أو عمر معلوم، أو مكان معلوم.. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان: 34).
كما نعلم جميعاً أن الجميع ميّت لا محالة.. كما قال تعالى مخاطباً نبيَّه وحبيبه: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ" (الزمر: 30)، وقال تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (الرحمن: 26 – 27).
كثيراً ما يخطر ببالي هذا الحوار الذي هو لسان الحال، كما ورد في الأثر، حينما يأتي ملك الموت لقبضِ رُوح الإنسان:
أن بعض الأنبياء -عليهم السلام- قال لملك الموت عليه السلام: أَمَا لَك رسول تقدمه بين يديك؛ ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رُسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغيُّر السمع والبصر، فإذا لم يتذكر مَن نزل به ولم يتُب، فإذا قبضته ناديته: أَلَم أُقدم إليك رسولاً بعد رسولٍ ونذيراً بعد نذيرٍ؟
فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي:
يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة، وأعضاؤكم قوية شداد.
يا أبناء الخمسين، قد دنا وقت الأخذ والحصاد.
يا أبناء الستين، نسيتم العقابَ، وغفلتم عن رد الجواب، فما لكم من نصير "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ: (فاطر: 37).
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أعذرَ الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة".
لكنني لا أدري لماذا تلك الغفلة التي نعيشها وسط صخب الحياة، حتى تحجَّرت قلوب بعضنا بهذا الشكل، فلم يعد للموت تلك المهابة التي كنت أراها في وجوه الناس حينما كنت صغيراً أصلي أحدى الجنازات أو أسير في تشييعها؟!
ما الذي تغيَّر؟ هل تغيَّر الموت أم تغيَّرت طباع البشر؟ أم هي قسوة القلوب التي يخشى منها على معظمنا إلا مَن رحم ربي!
الآن أصبح فَقْد عزيز أو جار لنا ربما يتلخَّص في قليل من المواساة بجمل محفوظة مكرَّرة: "الله يرحمه"، "كلنا سنموت"، "دنيا"، "سبحان الدايم".. "معقول".. مع قليل من مصمصة الشفاه، وبعد ما ننفض تراب القبور نعود كما كنا، وكأن شيئاً لم يكن "وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" (الأنعام: 28).
أذكر يوماً أن كان شيخاً يُلقي موعظةً أمام أحد القبور، في إحدى الجنائز، قائلاً: لو أخبرونا أن أحدنا سيموت الآن لما خطر ببال أي منا أنه هو المقصود، بل سيجعل نفسه في ذيل القائمة.
وفي النهاية.. عزيز القارئ هذه بعض الخواطر، التي تداهمني من حين لآخر عن تلك الحقيقة الواضحة التي نتجاهلها عمداً، ربما لكي نعيش.. الموت.
وقاكم الله كل مكروه أو سوء، وأطال الله أعمارَكم، ورزقكم حُسن الأعمال والخواتيم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.