لم أكن أرغب في المجيء هُنا، بل دُفِعتُ دفعاً.. كيف أصبحتُ (أنا) تعيسة إلى هذا الحد؟! لقد أصبَحَت حياتي جحيماً لا يُطاق!
غلبني روتين زوجي الذي أُرغِمتُ عليه من قِبل أهلي، وأطفأتني صلابة عقله الذائب في أعراف مجتمعه، وأضافني إلى تلك القائمة من غالبية نساء الشرق.
ماكينة، كما يُفضّل البعض القول، أعمل نهاراً لأطفالي، وليلاً لزوجي؛ ليُصبِح أقصى طموحي أن أطفئ نفسي قليلاً للراحة.. جسداً بلا حياة!
لا لا.. لن يحدُث هذا، أَبكي.. أبتهِل إلى خالقي بالدُّعاء.. ساعدني يا إلهي.
أمارٍس تمارين الخيال تلك.. سماء زرقاء صافية، بحر، هدوء، صوت الأمواج.. تهدأ أنفاسي المضطربة قليلاً.
يشق المياه قارب صغير قادم تجاهي، سيحملني حيث الأمنيات بالتأكيد!
أرى حلمي البعيد وقد أصبح قريباً.. يخبرني عقلي أن القادم أفضل، ولكن، ألا يُنذِرنا الواقع بما هو قادم ويخبرنا عنه؟
يستقر القارب على الشاطئ.. أرى والدي يقبض على المجداف للقيادة.. قيادتي!
تنتزعني صورته ليُذَكرني بواقعي مرة أخرى..
أنتفِض.. واقعي مُقيّدٌ مثلي.. لم أخرج من عقل والدي بعد، أنا حبيس عقله!
كيف لشابّ طموحٍ بارعٍ مثلي أن ينتهي به المطاف مثل والده الذي يفصل بين واقعه وبين طموحي عوالم كثيرة؟!
ألا يكفيه إجباري على دراسة مجاله الذي لم ولن أهواه يوماً؟!
لماذا كل هذا الإصرار من ناحيته على رسم طريقي لآخره؟!
لقد فعلت أنا شيئاً يريده هو رغماً عني، لماذا لا يتركني الآن أن أفعل ما أريد.. في طريقي!
لكم تثير حنقي سعادته، رضاه التام عن نفسه وعن قراراته في شؤوني، ثقته العمياء في عقله، وأنه امتلك من الحكمة ما يسمح له ويؤهّله لاختيار مصيري عني!
لكم يقهرني قناعته بنجاحه رغم وجهي العابس دائماً!
رغم حزن قلبي الذي لم يجبره الزمن!
ورغم عقلي الناقم الذي يأبى تقبّل حقيقة أنه ترك مُرغماً فرصة رائعة للدراسة في جامعة أوروبية عريقة في مجال يهواه، حتى بعد أن أتم دراسة ما يريده والده، والآن يجلس في مكتبه ليكمل مسيرته هو!
يعبس وجهي.. أتذكر صراخه.. "لو مشيت في طريقك مش هتفلح.. بكرة أفكّرَك!".
أخرّ ساجداً.. أرجوك يا الهي.. تعلم أنني لم أُخلَق لهذا.. ساعدني.. لا أستطيع اقتلاع كلماته من عقلي!
وعيده يثير هلعي! أنت تعلم ما في نفسي.. كيف لك أن تكتب لي عدم الفلاح؛ لأن شخصاً آخر غيري سيغضب؟!
ينتزعني صوت أمي تتحدث لأخي الصغير.
أتذكّر كلماتها عن القَدر: "نصيبك من دماغك".
وهل أملك أنا تنفيذ قرار عقلي؟!
يتم حصاري قلباً ونفساً وعقلاً، ثم يخبرونني أنني حُرة في اختياري!
كيف لفتاة مثلي أن تنجح في أن تشُق طريقها بإرادة حُرة خالية من الضغوط النفسيّة والعقلية التي يمارسها الأهل والمجتمع؟!
أتوه في فكري.. أتذكر صديقاتي ممن أُرغِمن على طُرقٍ غير تلك التي تهواها عقولهن وقلوبهن!
يعتصرني الخوف من قادم مجهول لم يحمل واقعه أماناً يُذكَر!
أبكي.. ألتفت حولي.. لا أريد لمخلوقٍ أن يراني.. كما أخبروني "لا يجوز للرجُل البُكاء!"، أجبر دموعي على التوقف.
أفكِر قليلاً.. كيف لخالقي أن يتركني لكل هذا التيه؟
أتذكّر كلمات صديق لي: "مَن جَدّ وَجد".
أرغم شفتيّ على الابتسام.. ينتبه فكري لكلماتٍ أخرى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".
ما كل هذا الخوف في قلبي؟!
أترُك واقعي للحظاتٍ وأنظُر إلى الأعلى.. لماذا لا تجيبني؟!
أتوه في زرقة السماء.. تنبعث سكينتها في نفسي.. أهدأ قليلاً.. تبتسم روحي رغماً عنّي وأردد: "سبحان الله البديع!".
كيف للخوف أن يجد مكاناً في حضرته؟
بديع السماواتِ والأرض.. يأبى عقلي التوقف.. له الأرض ومن عليها.. تُرشدني روحي.. فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.