بعد مرور 7 أعوام على الأيام العصيبة التي حلَّت بمصر في بداية عام 2011، حين أدت الاحتجاجات الصاخبة والحاشدة إلى إسقاط الديكتاتور المصري حسني مبارك، بات المناخ السياسي في مصر قاتماً. وفي عام 2013، أطاح الجنرال عبد الفتاح السيسي بالرئيس محمد مرسي، القياديّ في جماعة الإخوان المسلمين الذي كان قد فاز في أول انتخابات رئاسية حرة بفارق ضئيل السنة السابقة. منذ استيلائه على السلطة، أفرغ السيسي الدولة من أي سياسة حقيقية. واتسم بطشه بالإخوان المسلمين على وجه الخصوص بالوحشية؛ إذ اعتقل عشرات الآلاف من الإخوان، وصنَّف الجماعة منظمة إرهابية. وانحدرت مكانة مصر على الصعيد الإقليمي، وغادرت صفوف الريادة وباتت دولة من دول الصف الثاني. وأصبحت مصر اليوم، بعد أن كانت يوماً قلب العالم العربي، أشبه بشبحٍ لما كانت عليه في الماضي.
يسهل في هذه البيئة نسيان أن مصر كانت، في معظم فترات القرن العشرين، الدولة الأكثر أهمية في ساحة الصراع على روح الدول العربية الجديدة. تصارعت أيديولوجيات ومناهج جديدة لسد حالة الفراغ التي تلت تفكك الخلافة العثمانية بشكل رسمي عام 1924. في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، أثناء ما سُمي بالحقبة الليبرالية في مصر، تنافس العلمانيون، والاشتراكيون، والإسلاميون على الشرعية في مناخ سياسي كان على ما فيه من فوضى يتسم بالحرية نسبياً. لكن الحرية لم تدم. ففي عام 1952، أطاحت مجموعة سرية من الضباط العسكريين يقودها رجل يدعى جمال عبد الناصر بالنظام الملكي في مصر، وأجهزت على ما تبقى من العصر الليبرالي فيها.
كانت ثورة عبد الناصر لحظة فاصلة في عصر مصر الحديث. في بدايتها، كانت أيديولوجيتا الإسلام السياسي والعلمانية القومية المتبارزتان غير مستقرتين وفي تغير متواصل. لكنهما سرعان ما وصلتا إلى مرحلةٍ تحدد معها الصراع السياسي الذي يبدو أنه مستعصٍ على الحل، ليس داخل مصر وحدها ولكن على نطاق العالم العربي بأسره. في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ظهر التنافس بين الأيديولجيتين عبر التناحر المرير بين اثنين من أكثر الشخصيات البارزة في هذه الفترة: عبد الناصر على جانب، والمُنظر الإخوانيّ الشهير سيد قطب على الجانب الآخر.
يتتبع فوزي جرجس، في كتابه Making the Arab World، السيرة الذاتية والمسارات الفكرية المتداخلة لهذين العملاقين في التاريخ المصري. وخرج بتاريخ قوي ومنقح يسلط الضوء على القوى التي لا تزال متحركة في مصر تحت السطح الهادئ لحكم السيسي. اليوم، ترتسم صورة عبد الناصر وقطب في الذاكرة باعتبارهما ممثلين لرؤيتين متعارضتين لمصر. إلا أن جرجس يحكي قصة أكثر إثارة وتعقيداً عن العلاقة بين الرجلين والحركتين اللتين أسهما في تشكيلهما. وراء أيديولوجيتيهما المتنافستين تكمن شخصيتان مختلَّتان لهما دوافع معقدة وأحياناً متناقضة. يظهر من إعادة النظر التي أجراها جرجس لهذه الفترة الحرجة في التاريخ المصري أن جميع الأيديولوجيات في حقيقتها بها شيء من الميوعة وتماهي الأحداث، حتى تلك التي تبدو أكثر ثباتاً وصلابة.
أرواح متقاربة
وُلد عبد الناصر في أسرة من الطبقة العاملة بالإسكندرية عام 1918. بدأ نشاطه السياسيّ في سن صغيرة، واشتعلت جذوة مشاعره القومية المصرية في مظاهرة تعثر فيها مصادفةً وهو ابن الثانية عشرة. وجهته ميوله السياسية لاحقاً إلى مسيرة مهنية في الجيش، وهي مؤسسة كان يرى فيها "رأس الحربة التي يمكنها أن توقظ سكان مصر من سباتهم وخنوعهم للأجانب" كما كتب جرجس.
كان عبد الناصر قومياً على طول الخط؛ بيد أنه كان في الواقع إسلامياً أيضاً. أصبح عضواً في جماعة الإخوان المسلمين عام 1947، وهي جماعة سنية إسلامية أسسها حسن البنا في مصر عام 1928، وفي النهاية انتشرت إلى الشرق الأوسط. أصيب عبد الناصر سريعاً بالإحباط من الإخوان على المستوى الشخصي، لكنه واصل التعاون عن كثب مع قياداتها لعدة سنوات. وكان يرى في الجماعة قوة اجتماعية وسياسية مؤثرةً في مصر، وبالتالي حليفاً بالغ الأهمية.
زادت انتقادات عبد الناصر للحكومة المصرية خلال عمله في الجيش، وانتهى به الحال إلى اقتناعٍ وإيمان بضرورة الإطاحة بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا. خلال الأربعينيات من القرن العشرين، جمع مجموعة من شباب الضباط العسكريين المتشابهين فكرياً، وسماهم رسمياً الضباط الأحرار عام 1949. وفي عام 1952، أطاح عبد الناصر والضباط الأحرار بالملك فاروق، وسيطروا على مصر. كان الانقلاب الذي دعمه الإخوان المسلمين، غير دموي، وحدث دون مقاومة تُذكر.
في الوقت نفسه، كان نجم قطب، الناقد الأدبي والمفكر الجماهيري، في صعود. ولد قطب عام 1906 في قرية موشا، في صعيد مصر. وكان قطب، كعبد الناصر، قارئاً نهماً، وانخرط في السياسة منذ نعومة أظفاره. حين كان شاباً، أصبح كاتباً ذا قريحة جوَّادة لكنه كان ممتعضاً من أنه لم يحقق قط مكانة أو شهرة كالتي حققها بعض معلِّميه وناصحيه. وكغيره من الكتاب في هذا الوقت، كان أيضاً موظفاً حكومياً في وزارة التعليم. ودرس في الفترة ما بين 1948 و1950 في عدة أماكن في الولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك كلية ولاية كولورادو للتعليم (جامعة شمال كولورادو الآن)، في غريلي بولاية كولورادو، حيث نشأ لديه نفورٌ عميق من الثقافة الأميركية ترجمه فيما بعد إلى نقد فكري للغرب قام به طوال حياته.
حينئذ، كان قطب قد بدأ بالفعل الخوض في الموضوعات الإسلامية، ونشر كتابه المؤثر "العدالة الاجتماعية في الإسلام" عام 1949. ولما عاد إلى مصر، بدأ ينجذب لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه لم ينضم رسمياً للجماعة حتى عام 1953. سياسياً، كان يشاطر عبد الناصر كرهه للاستعمار وخيبة أمله في النظام الملكي المصري، ودعم الضباط الأحرار دعماً كاملاً في استيلائهم على السلطة. وفي الأيام الأولى للثورة، تشاور الرجلان مراراً حول رؤيتهما لمصر ما بعد الملكية. بل إنَّ قطب عمل لفترة وجيزة أميناً عاماً لهيئة التحرير، ذراع الحكومة للتعبئة الجماهيرية والدعاية. لكن سرعان ما دب الخلاف بينهما بعد فترة وجيزة من الثورة؛ إذ انكشفت لقطب حقيقة عبد الناصر، ولم يتم اختياره لشغل منصب وزاريّ كما كان يطمح. في هذه الأثناء، بدأ عبد الناصر ينظر إلى الإخوان باعتبارهم انتهازيين وتعطّشهم إلى السلطة، على نحو يسحب البساط من تحت قدميه. وفي عام 1954، بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي نسبها جرجس إلى أفراد مارقين داخل الجماعة، بدأ عبد الناصر بقمع الجماعة بعنف، وألقى بآلاف الإخوان في المعتقلات وحل الجماعة. كان الهدف الأهم في حملة القمع هذه هو قطب نفسه، الذي أُعدم عام 1966.
جذور المنافسة
نظر قطب وعبد الناصر لنفسيهما باعتبارهما شخصيتين تاريخيتين فريدتين يتوقف عليهما مصير مصر. ويوضح جرجس أنَّه بالنسبة لكلا الرجلين، تغلبت أوهام العظمة، والمعارك الشخصية، وإغراءات السلطة على الاعتبارات الدينية أو الأيديولوجية. استناداً على عدد من المصادر الأولية، من بينها مقابلات تقدم كثيراً من التفسيرات مع القلة المتبقية على قيد الحياة من المقربين لكلا الرجلين، يحاجج جرجس بأدلة مقنعة أنّ التحوَّل من الصداقة إلى العداء بين الرجلين تداخلت فيه عوامل شخصيّة وأيديولوجية أكثر من الشكل المعترف به عموماً.
تضيف رواية جرجس بُعداً ملموساً لقصة عمل عبد الناصر مع الإخوان المسلمين، وهي قصة لا تخفى على أحد وإن كانت تلقت اهتماماً قليلاً نسبياً من المؤرخين. في مقابلة مع جرجس، روى فريد عبد الخالق، أحد المساعدين المقربين من حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، أنَّ عبد الناصر "درب شباب الإخوان على استخدام السلاح. رأيته بأمّ عيني". ويذكر خالد محي الدين، أحد الضباط الأحرار، وواحد من المساعدين المقربين من عبد الناصر، أنَّ عبد الناصر كان "متحمساً" للانضمام إلى الجناح العسكري السريّ للإخوان، المعروف بالجهاز الخاص. تساعد عضوية عبد الناصر في الجماعة في فترة شبابه في تفسير عداوة الجماعة له لاحقاً؛ إذ رسخ في وجدان العديد من رموز جماعة الإخوان، بما فيهم قطب، أن رفض عبد الناصر مشاركة السلطة مع الإخوان، وعنفه اللاحق تجاههم، أمر مقيت إذ رأوا فيه خيانة شخصية لبيعته لحسن البنا.
أما عبد الناصر بدوره، فقد رأى في قطب شبيهاً له على نحو تجاوز التصنيفات السياسية والأيديولوجية المعتادة في ذلك الوقت. ينوه جرجس، مشيراً إلى فورة من المقالات المفعمة بالحماس التي كتبها قطب عام 1952، والتي ذهبت طيّ النسيان بشكل عام، إلى أنَّ قطب "كان واحداً من أوائل الكتاب الذين منحوا الشرعية للانقلاب الذي قاده عبد الناصر بتسميته بالـ'ثورة'". كما حثَّ قطب على الحكم العسكري "العادل"، وحظر الأحزاب السياسية، وتعليق النظام الليبرالي الدستوري. في أحد المقالات، عبر قطب عن دعمه لعبد الناصر والضباط الأحرار علناً، قائلاً: "نيابة عن الملايين، لن نسمح لكم بالعودة إلى الثكنات لأن مهمتكم لم تنته بعد، وواجبكم هو إتمامها".
يعد عبد الناصر وقطب مثالين بارزين لنوع من الاختلاط الأيديولوجي الذي يمكن أن يبدو مفاجئاً في سياق مصر اليوم، لكنه كان في يوم ما عادياً. فحتى بدأ عبد الناصر قمعه المصيري ضد الإخوان، اتسمت الحياة السياسية في مصر بسيولة كبيرة كانت ممكنة بفضل الانفتاح النسبي للحظة الليبرالية التي كانت تعايشها البلاد. وفي الأيام الأولى لنشأة الجماعة، كان بعض أفرادها أعضاء في حزب الوفد العلماني. وكان محي الدين، صديق عبد الناصر، لفترة قصيرة، ماركسياً وعضواً في الجهاز الخاص لجماعة الإخوان.
يفسر جرجس هذه الانتماءات المائعة بأنَّه لو كانت بعض الأحداث قد سارت على منحنى مختلف بين عاميّ 1952 و1954، لم يكن الجيش والإخوان –وبالتبعية عبد الناصر وقطب– ليصبحا عدوَّين لدودين. يُرجع جرجس الصدع بين عبد الناصر والإخوان إلى الصراع بين الأنماط المختلفة من الشخصيات والصراع على السلطة. تنامت الكراهية بين عبد الناصر المتهور أحياناً، ومرشد الإخوان آنذاك حسن الهضيبي المتحفظ معدوم الكاريزما، في السنوات اللاحقة للثورة. افترض الهضيبي أنَّ عبد الناصر سيكافئ الإخوان على دعمهم للثورة بمنحهم دوراً سياسياً واجتماعياً بارزاً في الفترة الانتقالية. بينما نظر عبد الناصر بشكل متزايد إلى الإخوان، أكبر كتلة جماهيرية في البلاد، باعتبارها التهديد الوحيد لسلطته وطموحه المتزايد.
ويعرض جرجس تنظيراً محتملاً مغايراً للواقع. إذ كتب، لو اختار الإخوان وعبد الناصر مسالك أخرى "لربما اختلف هيكل الدولة وهويّتها اختلافاً جوهرياً، ربما صارت أقل تجاوزاً، واستبداداً، وعمقاً". من المغري استعراض السيناريوهات البديلة. فمثلاً هناك سيناريو أن عبد الناصر لم يرسل الإخوان إلى السجون، ومعسكرات العمل، والمشانق. وربما لو لم يشهد قطب التعذيب في زنازين عبد الناصر لما انبثقت عن ذهنه فكرة التكفير التي ألهمت جيلاً من المتطرفين الدينيين. بعبارة أخرى، لما كان الصراع بين العلمانيين والإسلاميين الذي شكل السنوات الدامية الأخيرة من تاريخ الشرق الأوسط، قدراً محتوماً.
حسب علمي، لم يكن أحدٌ ليتنبأ عام 1952 أن عبد الناصر سينقلب على الإخوان، ويصبح مهووساً بتدميرهم. ولم يكن أحد ليحلم عام 1950 أنّ قطب سيتحول من ناقد أدبي عاديّ أقرب إلى العلمانية ليصبح واحداً من أهم المنظرين الإسلاميين في القرن العشرين. آنذاك، بدا التاريخ مفتوحاً على مصراعيه، بل ويبعث على التفاؤل.
غير أن حركة التاريخ اقتضت تقليص الخيارات. قال محي الدين: "صديقي عبد الناصر كان يمكن أن ينتهي إلى أن يكون قومياً دينياً (مثل الإخوان) في مقابل كونه قومياً عربياً". عبد الناصر وقطب كان بإمكانهما اتخاذ قرارات مختلفة. لكن ما مدى احتمالية بقائهما حقاً في صفٍ واحد؟ دعم قطب الديكتاتورية العسكرية لكنّ هذا لم يحدث إلا لأنه آمن أنّ الجيش هو الوسيلة الوحيدة للتغيير الراديكالي، وأن جيش الدولة الجهة الوحيدة القادرة على طرد النظام القديم وتمهيد الطريق أمام الحكم الإسلامي. ربما كان عبد الناصر جزءاً من الإخوان المسلمين، لكنّ ليس ثمة ما يدلل على وجود مشاعر تجاه تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل أو بآخر. ولم يبدأ تشككه في مدى لعب الإسلام دوراً محورياً في الحياة العامة إلا في مرحلة متأخرة من حياته. دفع تزايد انعدام ثقة عبد الناصر في قادة الإخوان المسلمين بعد الثورة ليكون معادياً للإسلاميين، وقومياً صارماً أكثر مما كان يمكن أن يكون. لكن تسلسل الأحداث على هذا النحو لا يجعل التزاماته، التي تطورت في اتجاه علماني واشتراكي، أقل شرعية أو إخلاصاً. فالأيديولوجيات تعتمد رغم كل شيء على ما تنفيه عن نفسها بنفس قدر اعتمادها على ما تنسبه لنفسها.
الماضي يُمهِّد للمستقبل
لم يتخذ الإسلام السياسي شكلاً متماسكاً إلا بعد أن حدد أعداءه. لم تنسَ جماعة الإخوان أبداً، وخاصة الأعضاء في الثمانينات من العمر الذين عرفوا قطب في سجنه، قمع عبد الناصر الوحشيّ له، فيما يُعرف في أدبيات الجماعة بـ"المحنة". وبعد عقود، وفرت المعاناة التي لاقاها الإخوان في سجون عبد الناصر مصدراً رئيسياً للشرعية للحرس القديم في الجماعة. وباتت الأولوية في تولّي المناصب القيادية في الجماعة لأبناء جيل المحنة.
كانت المحنة بلا شك علامة فارقة في نهج جماعة الإخوان؛ إذ ما زالت إلى الآن تعطي الأولوية للحفاظ على ذاتها قبل كل شيء، رغم أنّه يمكن القول إنّ الجماعة فشلت حتى في تحقيق هذا الهدف المحدود. خلال الأشهر المتوترة التي قادت إلى انقلاب 2013 الذي خلع مرسي، أخبرني أحد مسئولي الإخوان أنَّ الحركة "عادت إلى عقلية المحنة". ربما ساعدت هذه العقلية الإخوان في النجاة من قمع عبد الناصر ومن خلفوه، لكنها لم تخدم الجماعة بشكل جيد أثناء التجربة الديمقراطية القصيرة في مصر من 2011 إلى 2013، حين تحصَّنت بعقدة الاضطهاد والانغلاق على الذات. في محادثة أجريتها مع "إصلاحيين" من جماعة الإخوان، أشاروا إلى وجود جناح "قطبي" في الجماعة يعمل باستمرار على منع الأفكار الجديدة ومقاومة الإصلاحات التنظيمية. المرشد الحالي للجماعة (والمعتقل) محمد بديع على سبيل المثال، كان عضواً فيما يسمى بالتنظيم السري الذي أسسه قطب، حين كان طالباً جامعياً في ستينيات القرن العشرين.
لكن هذه الطريقة في فهم الإخوان المسلمين اليوم لها حدودها. فقادة الإخوان من كبار السن بالفعل محافظون، ويعملون في سرية، ويشكون في الغرباء، لكنهم على خلاف مع نظرية قطب عن التغيير. إذ كانوا مؤيدين ثابتين لنظرية التدرج والصبر في وجه المعاناة، وهم الأميل لإبرام صفقة مع الجيش. العديد من نشطاء الإخوان المسلمين الأصغر سناً، الذين بلغوا أشدهم لا خلال المحنة لكن خلال الثورة التي أطاحت بمبارك في 2011، يتملكهم غضب تجاه ما يرونه جبناً من "الحرس القديم" رافض التجديد. كانت أسماء شكر، الصحفية والمسئولة السابقة في الإخوان في الثلاثينات من عمرها، حاضرة في مذبحة 14 أغسطس/آب 2013 حين قتل الجيش المصري وقوات الأمن ما يقرب من ألف مؤيد للإخوان أثناء اعتصامهم في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة. وقالت لي إنها رأت أحد المتظاهرين يحاول إشعال سيارة لكن أحد قادات الجماعة الأكبر سناً منعه، وأضافت: "كنت مصدومة. يموت شبابك أمام عينك وتهتم بسيارة؟".
لم يكن قطب من المتحمسين للاحتجاج السلمي. كان راديكالياً وثورياً يؤمن بإحداث التغيير بطريقة درامية –تشمل العنف– تقوم به طليعة صغيرة. ويعلن قطب أنه طالما بقيت هذه الطليعة صلبة في التزامها تجاه الله والقرآن، فإنها ستنجح بينما ستفشل السياسات الجماهيرية والديمقراطية البرلمانية.
نموذج الطليعة الخاص بقطب مشهور بأنه مصدر إلهام الجماعات المتطرفة. ومع ذلك، فهو يشهد حالة تدهور مؤقتة بسبب فشل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الاحتفاظ بالأراضي التي كان يحكمها في سوريا والعراق. من ناحية أخرى، يصعب تقييم نمط جماعة الإخوان الإسلامي الجماهيري، حتى في الوقت الذي يقبع عشرات الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المصرية في السجن أو المنفى. ربما يبدو الإسلام السياسي اليوم ضعيفاً على المستوى التنظيمي، لكنه مازال صامداً من الناحية الأيديولوجية.
في عالم مثالي، يمكن أن تتفكك الأيديولوجيات بعد كل ما حدث، ويمكن أن تتحرر السياسية في مصر مما بدأ كانقسام مفتعل وغامض بين الإسلاميين والقوميين. لكن كل أنواع الانقسامات التي بدأت بشكل مفتعل –كالتفكير في الحدود، والدولة القومية، وحتى النزعة الطائفية بين السنة والشيعة- أُضفيت عليها صبغة من المعنى والديمومة مع مرور الوقت. ربما تكون الأفكار التي دعا لها عبد الناصر وقطب صُنعت ووظفت بغرض الوصول للسلطة، لكن هذا لا يقلل من تبعاتها وتأثيرها على أشخاص يؤمنون بها على حقيقتها بعد عقود عديدة من ذهابهما.
كان كلٌ من قطب وعبد الناصر مهووساً بالسلطة، لكن كليهما لم يؤمن بأن السلطة مهمة لذاتها. إذ طمح كل منهما إلى استخدام السلطة لإعادة تشكيل وجه مصر. تدعم تجربتهما افتراضين بهما شيءٌ من التناقض: أولهما أن الأفكار مائعة وتتشكَّل في لحظات تاريخية بعينها، وثانيهما أنها مستمرة، ومهمة، ويمكن أن يكون لها كُلفة بشرية ضخمة.
التيارات الأيديولوجية التي بدأها عبد الناصر وقطب أصبحت الآن جزءاً من نسيج الشرق الأوسط الحديث. لا يزال الصراع بين ورثة تلك التيارات مستمراً، ولا يرجح أن يهزم تيارٌ الآخر بالضربة القاضية. لكن هذا لن يوقف الحزبيين والأيديولوجيين، والمستبدين عن مواصلة المحاولة لإنزال هزيمة نهائية ونكراء بالآخرين. فالنظام المصري على سبيل المثال لا يزال مصراً على تدمير جماعة الإخوان، مؤمناً أنَّ باستطاعته أن يفعل اليوم ما عجز عنه من قبل. لهذا السبب المؤسف، فإنَّ كتاب Making the Arab World -وقصته عن رجلين متحمسين ومتهورين ومخلصين– لا يقدم فقط تقريراً عن سبب انحراف ثورة أخرى في ماضي مصر عن مسارها، لكنَّه يحذر أيضاً من أنه بالنسبة لمصر، ولباقي المنطقة، ربما لم يأتِ الأسوأ بعد.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Foreign Affairs.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.