إن المرأة المثقّفة التي تُرابِطُ في قاعات المؤتمرات فلا تفوتها محاضرة، ولا تترك كتاباً إلا والْتهمته ولا ديواناً شعرياً إلا وحفظته، ولا برنامجاً علميّاً إلا وتابعته، ولا ندوة إلا وتربّعت وسطها. ثمّ إذا انصرفت لتتزوّج فإنها تتزوّج بما تُمليه العادات البائدة والتقاليد المقيِّدة! فترمي لُبابة ما تعلّمت إلى ريح صرصر عاتية، وتسلّم قناعاتها لطوفان لا عاصم منه في حضرة الجهل. هي امرأة لم تفهم ما الثقافة؛ إنّها امرأة خُيّلَ إليها أنّها اغترفت من مَعين الثقافة بمطالعاتها ومناقشاتها، غير أنها وصلت إلى العين ولم تشرب!
وهل من الثقافة أن تفخري بأغلى المجوهرات؟ وهل الجمال كان في الغلاء يوماً؟
وهل من الثقافة أن تكدّسي أوثر الفراش وأفخر الأواني فتعتبرينه زاداً تدخلين به حياتك الجديدة؟ هلّا زوّدتِ روحك بالقناعة أوّلاً وعلّمتِها الامتلاء بالمعنى قبل أن تفسدها المادّة ويُلهيها بريقها الخدّاع؟!
وهل من الثقافة أن يكون فستانك من تلك الثياب الباهظة؟ وهل "فرحة العمر" لن تتحقّق إلّا بإتيانك التبذير ونسيانك التلطّف والاعتدال؟!
من الثقافة أن تتزوجي بالطريقة التي تتصالح مع منطقكِ الحصيف وفكرك المتفتّح، طريقة تعلو بذاتك ولا تُشيّئها وتَرفق بالآخرين ولا تزيد همّهم؛ بل تحاول أن تخلِّصهم مما كبّلهم.
إنّ المرأة التي طالعت من الكتب ما يرفعها لعنان السماء ثم إذا أصبحت زوجة لا تعلم بأيّ أسلوب تعامل زوجاً طباعه تختلف عن طباعها ولا تجد طريقاً لفهم أهله -الذين هم عائلتها- المختلفين عنها. فتتعثّر في بناء جسر ينطلق من ذاتها نحو الآخرين الذين هم في حاجة لفكر واعٍ يفهم منطلقات تصرفاتهم ويضع يده على ما يوحّد الناس لا على ما يفرّقهم. هي امرأة لم تسأل يوماً نفسها: "لِمَ أقرأ؟" فأخطأت طريق الثقافة. الثقافة ليست تكبُّراً على آخَر ترينه لا يزال قابعاً في دهاليز جهله؛ بل محاولة لمدّ يدك نحو إشكالاته وفهم منطلقاتها من واقع وحال وحاجة.. الثقافة ليست اختياراً للغربة واستمتاعاً بالانعزال؛ بل الثقافة ما يجعل شعور الغربة ينقض مضجعك ويُوجع روحك، فتبحثين على طرائق تجمعك بهم على طريق الصلاح.
إن المثقفة التي صدّعت آذان العالم بمحاضراتها ثم وجدت نفسها لا تقوى على محاورة ذلك المخلوق الصغير الذي دخل حياتها.. أنّى لها بلقب "مثقفة"؟!
طفلك أوّل حقل ستختبرين فيه بذورك؛ أهي مثمرة أم عقيمة! طفلك هو مرآة أفكارك؛ فهل بها آمنت حتى دَرَرْتِها في حليب منه تسقينه؟ أم أهملتِه ومللت الاجتهاد في استنباط أساليب في تربيته. ليس يُطلب منك غير الانتباه لمكنونات هذا المخلوق الطريّ الذي يعجنه ويسقيه العطف المنساب من عينيك حتى يكبُر قويّاً بالرحمة. هذا الطفل يُريد منك إنصاتاً مُرهفاً وصبراً مسؤولاً ليخرج سَويّاً للمجتمع، حيث يكون فرداً منتجاً لا
عالة. حتماً ستتعبين، لكن تلك هي الثقافة! الثقافة -سيدتي- ليست أسفاراً تُتلى وكتباً ترمينها سخطاً على رأس طفلك المشاكس!
إنّ ما يصحّ عليه اسم "ثقافة" هو ما يرقى بروحك فتحلّق في سماوات المعنى الصافية، نائيةً عن بِرك السلبية والتقليد الآسنة التي تُلوّثك بالزيف، كيف لا وأنت تزيّفين قناعاتك بأفعال غريبة عنها؛ بل تتصادم معها!
إنّه من الثقافة أن تنثري في واقعك الأفكار التي بها آمنت حتى تثمر أعمالاً تَصْدُقَها.
إنه من الثقافة أن تكوني رائدة للتغيير في بيتك أوّلاً، وأن تكوني مطبّقة للنظريات في حقل ذاتك وحاذقة لأساليب الإصلاح في مشاريع حياتك الخاصّة.
إنّ الثقافة هي التصالح بين ما اعتقدتِ وما تفعلين، والإيمان بذاتك المِقدامة على تحطيم كلّ صنم يعتدي على إنسانيّتها.
إنّ الثقافة انعتاق من موروث يُغشي على العقل، وجرأة على تنفيذ ما يُمليه العقل وما يستقرّ في الفؤاد.
إنّ الثقافة تحرُّر وانطلاق نحو رؤى جديدة ترمي الحصى في الوعي الراكد.. "تعلَّموا ما شئتم أن تعلموا فلن ينفعكم الله عز وجل حتى تعملوا بما تعلمون". – محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.