لا يزال العرب يعيشون في فترة انحطاط منذ سقوط الدولة الأموية بالمشرق العربي ومنذ سقوط دولة الأمويين في الأندلس. هذه حقيقة لا يمكن التهرب منها، العرب تركوا خير الأرض لغيرهم؛ اعتقاداً أن الإسلام سوف يجعل الجميع سواسية، ولكن هيهات أن تتحول قيادة الأمر لغير العرب وتتوقع منهم أن يحفظوا العهد والوفاء، فغدر الفرس والترك والديلم بالعرب في المشرق العربي فضعفت الدولة العباسية وأصبحت رهينة تلك الشعوب، ونازع البربر (التسمية العربية للأمازيغ) السلطة في الأندلس فضعفت الدولة الأموية وبدأ عصر ملوك الطوائف.
عندما حرر العرب الشعوب العربية في المشرق العربي من نير الاحتلال الفارسي والبيزنطي سماها الشعوبيون وعرب الاستشراق الاحتلال، من دون دراسة الوضع وفهم حقيقة ما حدث، كان الإسلام مشكلتهم الرئيسية ولم ينظروا إلى الأمور بموضوعية. أما في المغرب العربي، فإن البربر اندمجوا بالمجتمع الجديد بعد حروب استمرت 70 عاماً، كان الأمويون يتوسعون غرباً من أجل نشر الدين الإسلامي بين الشعوب الوثنية، وهناك بعض القادة الذين فكروا في الالتفاف من الغرب لمحاصرة القسطنطينية؛ لمناعة المدينة وصعوبة إسقاطها، عندما وصل العرب إلى شاطئ بحر الظلمات (المحيط الهادي)، كانت الأمور في شبه الجزيرة الأيبيرية في حالة غليان، وكان الصراع محتداً بين القوط (الحكام الجدد) وسكان البلاد. آمن السكان المحليون بالمذهب الأريوسي، وهو مذهب يدعو إلى قبول الطبيعة البشرية إضافة للطبيعة الإلهية للمسيح، وكان القوط على المذهب الذي يرفض الطبيعة البشرية؛ ما أدى إلى اضطهاد السكان المحليين، وبلغ الظلم إلى الحد الذي دفع حاكم سبتة يوليان إلى طلب عون العرب للتخلص من نير الاحتلال القوطي، كما أن اليهود كانوا أمام خيارين؛ إما القتل وإما التنصر ولا ثالث لهما. فكان دخول العرب إلى الأندلس رحمة للسكان المحليين، الذين دخلوا في الإسلام طواعية؛ لاقتناعهم بأنه لا فارق كبيراً بين المذهب الأريوسي والدين الجديد.
تعالوا لنحلل تركيبة سكان الأندلس عند سقوط الدولة الموحدية (نحو 1212م)، كان سكان الأندلس خليطاً من الشعوب المختلفة في عام 711م: السكان المحليون، العرب، والبربر، مع الزمن انضم إليهم الصقالبة (خليط من المرتزقة، المماليك وغيرهم)، وسكان موريتانيا والسنغال (خليط من العرب والبربر والأفارقة)، هذا الخليط انصهر في بوتقة الحضارة الأندلسية ليسمى بالأندلسيين (هذه خلاصة فكر أبي القومية الأندلسية بلاس انفانتي بيريز، الذي أعدمه فرانكو خلال الحرب الأهلية الأندلسية). أما من حارب الأندلسيين بشراسة في حرب الاسترداد فهم خليط من سكان الممالك الشمالية والمرتزقة الفرنسيين والإيطاليين والإنكليز وغيرهم، عندما نجح فرديناند وإيزابيل في السيطرة على غرناطة عام 1492م، تم نقض كل العهود التي وقَّعاها مع السلطان أبي عبد الله الصغير، وبدآ بملاحقة الأندلسيين وتنصيرهم بالقوة من خلال أعتى المؤسسات الدينية في أوروبا؛ محاكم التفتيش، ثم قاما بإصدار مرسوم بطرد اليهود وإعلان المذهب الكاثوليكي مذهباً وحيداً (تم إلغاء هذا المرسوم في عام 1976م). خلال 120 عاماً، تمت ملاحقة الأندلسيين بشراسة منقطعة النظير، حتى تم إصدار مرسوم الطرد الكبير في عام 1609م، وخلال 8 سنوات، تم طرد نحو 3 ملايين أندلسي إلى المغرب، والجزائر، وتونس، والشام، وفرنسا، وإيطاليا وإسطنبول.
قد ينكر الشعب الإسباني وقع مأساة الطرد، ولكن الحقائق التاريخية تثبت أن انهيار الإمبراطورية الإسبانية بدأ مباشرة بعد الطرد الكبير، حيث فرغت مناطق بكاملها من سكانها الأندلسيين (الموريسكيين)، واختفت مجموعات كبيرة من الحرفيين والصناع، فانخفضت المداخيل، وهجر كثير من سكان المدن والنبلاء تلك المناطق بحثاً عن أماكن يستطيعون فيها العمل والمعيشة.
استمر تدهور الدولة الإسبانية، فوقعت تحت الاحتلال الفرنسي، ثم بدأت بفقد مستعمراتها واحدة تلو الأخرى، ولم تحاول الدولة أن تنصف الفلاحين وسكان مناطق الأندلس، ومن هناك كانت بداية الثورة والمطالبة بنظام جمهوري بديلاً للنظام الملكي الذي تسيطر عليه الكنيسة الكاثوليكية، حتى اندلعت شرارة الحرب الأهلية بين عامي 1936-1939، بعد وفاة فرانكو وتسلُّم خوان كارلوس العرش، تم السماح بحرية الديانات وتم الإعلان عن دولة كونفدرالية من 19 إقليماً، وأُعلِن الأندلس إقليماً مستقلاً تديره حكومة محلية Junta de Andalucia، كانت هذه البداية لعودة الكثير من الموريسكيين إلى الدين الاسلامي كما حدث تماماً مع اليهود.
أما الشعب اليهودي، فإنه يعتبر مأساة طرده من الأندلس لا تقل أهمية عن السبي البابلي أو خراب الهيكل الثاني، وهو يحرك لديهم كثيراً من الأحاسيس والانفعالات التي تؤثر على وعيهم الجمعي وتماسكهم كأمة، ولا ينسون مأساتهم ولا يغفرون للإسبان هذا الفعل المنكر.
أما سكان تونس، والجزائر، والمغرب، فقد ترسخت لديهم أحاسيس الظلم والغبن، ويحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي طُردوا منها عنوة. إن الذاكرة الجمعية في المغرب العربي تجاه الأندلس متجذرة في ذاكرة كل واحد منهم، صغيرهم وكبيرهم، ولا يستطيعون نسيان حقهم الذي خسروه، ولا يزالون يتناقلون تلك الذكرى أباً عن جد.
أما شعوب المشرق العربي، فيعتبرون حكم العرب بالأندلس استعماراً ولا يعتبرون احتلال إيران الأحواز احتلالاً! منطق عرب المشرق مشوَّه منذ عهود طويلة، شخصياً أستصعب شرح موقف العرب في المشرق العربي، ولكن عندما أرى كيف يحوِّلون الحق إلى باطل والباطل إلى حق، وعليه فلا حق لهم بتدريس حضارة الأندلس ولا الشعر والأدب، ويجب ألا يعتبرون ابن زيدون وولّادة وابن عبد ربه والزهراوي والمعتمد بن عبّاد والحَكم المستنصر وعباس بن فرناس، وآلافاً مؤلّفة جزءاً من تراثهم وتاريخهم، وشكراً لإسبانيا؛ لأنها تبنَّت هؤلاء العمالقة وتعتبرهم من أجدادهم العظماء.
اذهبوا يا عرب المشرق وارتموا في أحضان كل من يحتقركم، ولا بأس في أن تسجدوا لهم، فأنتم قد سجدتم في الماضي البعيد لـ"اللات" و"العُزَّى"، وبئس ما تفعلون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.