تعارفا في مكتبة وعاشا منفصلين بين الجزائر وفرنسا.. قصة حب المفكر مالك بن نبي؟

عدد القراءات
2,988
تم النشر: 2018/08/22 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/22 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش

أطلق ضيف تدوينة هذا الأسبوع صرخته الأولى بمدينة قسنطينة الجزائرية، في أول يوم من عام 1905، كذكر وحيد وسط عائلة محافظة انتقلت بعد أعوام قليلة من ولادة صاحبنا إلى مدينة تبسة بحكم عمل الوالد في القضاء الإسلامي. نحن نتحدَّث هنا عن وقت كانت فيه البلاد تعاني من احتلال فرنسي أطبق على أنفاس كل الجزائريين، بل حاول طمس هويتهم المميزة، ودفعهم دفعاً إلى التخلي عن عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم ودينهم، لصالح ما تمليه الإرادة الاستعمارية.

كان من الطبيعي إذن أن يسقط كثيرون في هذا الفخ، إلا أن صاحبنا استفاد من طبيعة الوسط المتعلم الذي نشأ فيه، فقد أدخله أبوه إلى المدرسة القرآنية، وبعدها المدرسة الفرنسية، مع الحرص الشديد على تعليمه اللغة العربية، الضامن الوحيد لحفاظه على الهوية، على المعنى، على الذات والوجود. تخرّج سنة 1925، فسافر إلى فرنسا لإكمال دراسته، مفضلاً السير على خطا والده والتخصص في القانون، لكن شاء القدر ألا يكتب لمحاولته الأولى النجاح المأمول، فعاد إلى وطنه، وعمل في محكمة آفلو، لكن نزاعاً مع موظف فرنسي دفعه إلى الاستقالة من منصبه بعد سنة تقريباً من تسلمه للوظيفة.

كرَّر محاولته في السفر إلى فرنسا، وتم له ذلك سنة 1930، وقرَّر استكمال دراسته في الدراسات الشرقية، ومرة أخرى فشل في ذلك لسبب بسيط هو منع الجزائريين من أمثاله من هذا الحق! المثير للتأمل في حياة صاحبنا أنها حتى ما ذكرناه تميزت بنوع من سوء الحظ، فقد واجهته العقبات والصعوبات التي منعته من تحقيق أحلامه، فشل، نزاعات، قهر مستعمر عنصري ومتجبر، وكان لكل هذا أثر كبير على نفسيته، فهل انزوى في غرفته يائساً يبكي حظه العاثر؟

طبعاً لا! الأبطال الحقيقيون هم الذين تعاندهم الظروف فيصنعون أقدارهم بأيديهم. قرَّر تحويل مساره، فالتحق بمدرسة اللاسلكي ليتخرج فيها مساعد مهندس كهربائي، وانغمس في الدراسة والبحث في المجال الفكري، إلى أن التقى بمن غيّرت مسار حياته فعلاً إلى الأفضل.

فاتنة باريسية أصيلة تدعى سيليستين بول فيليبون.. كان صاحبنا مواظباً على زيارة مكتبة للمطالعة في العاصمة الفرنسية باريس، وكلما طلب كتاباً قيل له إن قارئة أخذته، وكلما طلبت هي كتاباً قيل لها إن قارئاً أخذه، اهتما معاً بمعرفة هذا الثاني الذي يتوافق مع الآخر، فكانت قصة تعارف، فحب فزواج! تم الزواج عبر الفاتحة عام 1932، وبالعقد الرسمي عام 1935، بعدما أقنع صاحبنا حبيبته سيليستين باعتناق الإسلام، وسماها خديجة، وكان الشهود على محضر الزواج المغربي محمد الفاسي والتونسي الحبيب تامر وجزائريان، هما صالح بن ساعي، وعلي الحمامي، إضافة إلى أصدقاء آخرين، استقدموا معهم جوقاً موسيقياً، وقامت سيلستين أو خديجة بطبخ الكسكس وتحضير السلطة للمدعوين!

وبعد سنوات طويلة من الغياب الذي كانت تتشوق فيه والدته لرؤيته هو وزوجته، عاد عام 1939، لكن بعد فوات الأوان فقد توفيت أمه قبل ثلاثة أيام فقط قبل عودته مرفوقاً بخديجة! كان مرتبطاً جداً بأمه، فأصيب بحزن شديد، لكن زوجته وقفت بجانبه وساندته في مشاريعه وأبحاثه، كما أحبَّت الجزائر كثيراً، وصارت جزائرية أكثر من الجزائريات، ترتدي الملاءة القسنطينية السوداء، وتتعلم طبخ الرغيف، هي الباريسية وحيدة أمها، والتي كانت تسكن بالضاحية الباريسية، قبل أن تشهد المكتبة اللقاء المنتظر مع رفيق العمر.

هو الحب إذن، القادر دوماً على إدهاشنا بغرائبه التي قد لا تخطر على بال من لم يجربوا مذاقه يوماً! عاد صاحبنا مع زوجته إلى فرنسا، وشرع في تأليف أعمال مهمة قفزت به إلى مصافّ أهم المفكرين المسلمين في القرن العشرين، نتحدث هنا عن "الظاهرة القرآنية" سنة 1946، ثم "شروط النهضة" سنة 1948 باللغة الفرنسية (قام بترجمته إلى العربية عام 1960 مع إضافة فصلين إلى النسخة العربية)، وهو الكتاب الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار ووجهة العالم الإسلامي، وغيرها من الأعمال الفكرية القيمة التي جعلت مشروعه مرتبطاً بما تركه العلامة الراحل ابن خلدون، في تشريحه للحضارة، وعوامل سقوطها وسبل نهوضها من جديد.

اندلعت الثورة الجزائرية عام 1954، فكان صاحبنا مجبراً على مغادرة فرنسا، فيما فضّلت خديجة البقاء فيها، فانتقل مرغماً إلى القاهرة التي عين فيها مستشاراً لمنظمة التعاون الإسلامي، ما سمح له بمواصلة الكتابة والتأليف في مشروعه الفكري، وأيضاً إعالة زوجته في فرنسا، كما زار سوريا ولبنان لإلقاء محاضرات هناك، وأيضاً لتطوير قدراته اللغوية العربية، بهدف الكتابة بها، وقد تم له ذلك بعد تمكنه من ترجمة مؤلفاته السابقة وكتابة أخرى بلغته الأم.

لم يكتب لزواجه بخديجة أن يتوج بولادة أبناء، فتدخل أفراد عائلته لدفعه إلى الزواج مرة ثانية، وتم له ذلك عام 1961، وكان حينها في السادسة والخمسين من العمر، قبل استقلال بلاده ببضعة أشهر، عندما كان يقيم في القاهرة، وتم تسفير زوجته الجديدة إليه، وعقد قرانهما هناك، ورزق بالبنات، لكن الغريب هو احترام خديجة لزواجه الثاني وتفهمها للأمر وعدم إحراجها له!

استقال صاحبنا من منصبه كمدير عام للتعليم العالي في جزائر ما بعد الاستقلال، وتفرَّغ بشكل كامل للعمل الفكري والتوجهي، مواصلاً إلقاء المحاضرات وتأليف الكتب، إلى أن وصله عام 1973 خبر وفاة خديجة، التي قال عنها كل من عرفوها بأنها سيدة رائعة، ترسل لعائلة زوجها كل ما تنسجه بيديها، وتقدم لهم هدايا مثل أقمصة الصوف، وكانت تحب زوجها إلى درجة أحبّت معها كل من كان يحبهم، ولم يجد صاحبنا ما يقوله تعبيراً عن حزنه لرحيلها سوى عبارته: "لقد أحسست باليتم بعد وفاتها…"، ليلحق بها إلى دار البقاء بعد أشهر قليلة فقط من موتها، يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ويتم دفنه في مقبرة سيدي أحمد بوقبرين في الجزائر العاصمة، ليسدل الستار على قصة حب رائعة راقية، كان بطليها مفكّرٌ عربي اسمه مالك بن نبي، آمن بقدرة وطنه وأمته على النهوض من سقطتها الحضارية، وزوجة اسمها خديجة سيليستين بول فيليبون، آمنت بزوجها وأحَّبته بصدق، فساندته ودعمته في مساره الشاق والصعب حتى آخر يوم في عمرها، هي التي خفق قلبها له بعد اللقاء به في مكتبة!

– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالمجيد سباطة
كاتب مغربي