لسبب قد يكون استثنائياً، لفتت قصة هدير انتباهي، هدير تلك الفتاة المصرية التي أصبحت تحمل لقب "أول أم عازبة في مصر"، والتي -حسبما قالت- رفضت أن تستجيب لضغوط من أهلها، وزوجها بعقد عرفي، وأهله، وأن تتخلص من حملها؛ حتى لا تحمل لقب "أم عازبة"، وحتى لا يحمل طفلها لقب "لقيط"، في مجتمع مصري يعترف بالزواج العرفي، لكن لا يعترف بما ينتج عنه.
ليس هذا ما لفت انتباهي في قصة هدير، وأنا القادمة من مجتمع مغربي يُصنَّف باعتباره أولَ مجتمع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعترف بحق الأم العازبة، وحقوق طفلها، اعترافات لا يزال ينقصها الكثير من أجل إقناع المجتمع بحق هذه الفئة في أن ينظروا إليهم كمواطنين أولاً وأخيراً، وما تبقى فمجرد تفاصيل تخصهم، لا تخص غيرهم.
الذي لفت انتباهي في قصة هدير، التي هي بالمناسبة صحافية وناشطة حقوقية، هو أننا -نساءَ المنطقة- وبجميع مستوياتنا الثقافية والاجتماعية، نفكر بالطريقة نفسها: "نريد طفلاً يمنح لحياتنا معنى، نريد طفلاً يعوضنا عن حرماننا من حب الأهل والرجل، نريد طفلاً نحمي من خلاله أنفسنا من الوحدة والشيخوخة وتقلبات الزمن، نريد طفلاً نخبئ فيه ضعفنا حين يكبر ويتقوى".
تابعت بإمعانٍ الطريقة التي كانت تتحدث بها هدير عن طفلها، عن إصرارها على عدم التنازل عنه، عن عدم قتله، عن عدم إجهاضه، عن الاحتفاظ به في أحشائها، وإخراجه حياً إلى الوجود. إصرار هدير لم يكن فقط إصرار امرأة تريد التشبث بطفلها، إصرار هدير تشبُّث بطوق الأمان، ألا تقولون لنا ونحن طفلات صغيرات إننا يجب أن نتزوج لننجب وليكبر أبناؤنا ويعتنوا بنا حين نشيخ أو حين ينبذنا الرجل من أجل أخرى؟ علَّمتمونا ونحن ما زلنا نلعب بالدمى أن أهم حماية لنا كإناثٍ أطفالنا، كذلك هدير، مثلنا، تلقت الدرس نفسه، وحفظته عن ظهر قلب، وراحت تبحث خارج مدارات الأهل عن رجل يمنحها طفلاً، ويمنحها معه الشعور بالأمان مما قد يأتي.
عبارات شتائم وسب وقذف عديدة انهالت على هدير؛ لأنها اختارت أن تحتفظ بجنينها وتخرجه طفلاً، العبارات انهالت، ويا للغرابة من النساء قبل الرجال! لكن، لا أحد فكَّر قبل أن يتكلم ويشتم، ويتساءل وهو يتهم هدير بالانحلال الخلقي، والابتعاد عن الدين، وتلك التهم المستهلَكة، لا أحد تساءل عن الخطأ الذي يُرتكب في تربيتنا خطأ، وفي تلقيننا تعليمات خطأ، وفي توجيهنا إلى الحياة بطريقة خطأ، لا أحد توقَّف وجلس يسأل نفسه: لماذا هؤلاء الأمهات من دون رجل، حتى وإن كان هذا الرجل موجوداً؟!
المسألة ليست مسألة أمهات عازبات فقط، وحقوقهن في هذا المجتمع الذي لا تملك فيه لا الزوجة، ولا العازبة، ولا المطلقة، ولا الأرملة، ولا العاقر، ولا الولود، أي حق، إلا من اقتلعت قلبها من جذوره وراحت تفترس كل شيء من أجل لا شيء…
المسألة ليست مسألة أن هدير أنجبت بزواج عرفي أو من دون زواج، المسألة أن تربيتنا -نحن النساء- في هذا المجتمع العقيم تربية لا تنتج سوى العقيمين فكرياً ومعنوياً ونفسياً.
يخبروننا ونحن صغيرات بأن علينا أن نجيد الطبخ، والكي، والنفخ؛ لأن أقرب طريق إلى الرجل معدته، يخبروننا بأن علينا أن نتعلم كيفية إرضاء الرجل وإرضاء أهله؛ لأنه إن أحبَّكِ أهلُه أحبوك، يخبروننا بأن علينا أن نكون ذكيات وفطِنات، وأن نوقع بأول رجل في طريقنا حتى ننجب بسرعة، ويكبر أبناؤنا بسرعة؛ ليعتنوا بنا بسرعة.
لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أن نحب، لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أن نكون معتدّات بأنفسنا، لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أن نحمي أنفسنا بأنفسنا، لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أن نحب أنفسنا؛ لأننا وُلدنا إناثاً، وسنكون نساء، لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أن نجتمع برجل لأننا نحبه، وليس لأننا نحب ما سيحوّلنا إليه هذا الرجل، لا أحد يعلمنا ونحن طفلات صغيرات أننا بشر من قلب ومشاعر وليس وعاء يبحث عمن يمنحه بذرة تنمو في داخله فتخرجه طفلاً يحمل بين يديه مفتاح الأمان، وجواز الحماية من مجتمع عقيم.
هدير ليست قصة امرأة مصرية وجدت نفسها تحمل لقب "أم عازبة"؛ بل هي قصة كل النساء اللاتي تربين على أن يكنَّ أمهات ليضمنَّ لأنفسهن مكاناً ومكانة في هذا المجتمع، هي قصة كل الأمهات اللاتي تربين على أن يكنَّ أمهات لا نساء، هي قصة نساء يبحثن عن الأمان والحب في أطفالهن بعد أن أخبرهن الأهل والرجل بأن لا حب ولا أمان بين ظهرانيهم؛ لذلك ارحمن -أيتها النسوة- هدير، وارحمن طفلها، فما هي إلا صورة عنكن، ما هي إلا صوت لكنَّ، ما هي إلا أنتُنّ، سواء كنتنَّ مع رجال أو بلا رجال، أنتنَّ مجرد مشروع أمهات.. لا نساء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.