العالم نسي مجزرة رابعة في مصر، لكني لا أستطيع ذلك

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/17 الساعة 15:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/17 الساعة 17:32 بتوقيت غرينتش

عام 2011 لعبت آخر مباراة لي في كرة قدم الصالات باعتباري طالباً في السنة الأخيرة بجامعة ولاية أوهايو. بعدها بعامين وجدت نفسي أركض، ليس خوفاً من العرقلة بل طلباً للنجاة من الجيش الذي انتشر في الشوارع لقتل شعبه. قبل 5 سنوات في 14 من أغسطس/آب أقدم الجيش المصري على تنفيذ أكبر عملية قتل للمتظاهرين في يوم واحد في التاريخ الحديث، حيث قتل أكثر من 1000 مدني بلا رحمة. نجوت من القتل لكني قضيت 22 شهراً التالية في سجن مصري، يشكل التعذيب والسادية والقسوة الحياة اليومية فيه.

في الفترة ما بين يوليو/تموز إلى آب/أغسطس من عام 2013 أقام متظاهرون مصريون اعتصاماً في ميدان رابعة بالقاهرة، احتجاجاً على الانقلاب العسكري الذي أطاح بالعملية الديمقراطية التي انطلقت على إثر ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011. شاركت في الاعتصام لتوثيق تلك اللحظة المهمة في التاريخ المصري. ودفعت ثمن انخراطي ذاك عندما فُضّ الحشد بالقوة عن طريق الذخيرة الحية في  الرابع عشر من أغسطس/آب.

رغم أني نجوت من أصعب لحظات المجزرة برصاصة في ذراعي فقط، اعتقلت لاحقاً في خضم حملة الشرطة الشاملة. خلال ما يقرب من عامين أمضيتهما في السجن قمت عمداً بكبت كل مشهد كنت شاهداً عليه في ذلك اليوم العصيب. حاولت نسيان صوت أزيز الرصاص المتطاير في كل اتجاه، والأجساد التي تسقط على الأرض صريعة للألم والمعاناة، الإصابات التي لا حصر لها وأنهار الدماء وأصوات الصرخات ورائحة الغاز المسيل للدموع والبارود الخانقة والقوية التي كان بالإمكان تذوقها بالأفواه. حاولت محو الذكريات التي أطارد فيها كحيوان، غير قادر على الدفاع عن نفسي، راكضاً صوب موتي الحتمي أثناء خروجي من المكان.

أتذكر جيداً رؤية مصوريْن يتلقيان رصاصات في دماغيهما أطلقها قناص. تناثرت دماؤهما على لافتات رابعة البيضاء التي كانت تحمل شعار الثورة "سلمية". كان ذلك قبل أن تخطئ رصاصة أخرى من نفس القناص رأسي ببوصات معدودة وأنا أنقل المجزرة مباشرة على تويتر. وفي وقت لاحق، أُصبت برصاصة أخرى أتتني من الخلف هذه المرة. جعلني هاتف الآيفون الخاص بي هدفاً، هرعت إلى المستشفى الميداني حيث ضُمِّد جُرحي سريعاً وصُرفت من المستشفى، كمئات المصابين الآخرين الذين عانوا من جروح حرجة تتطلب رعاية متخصصة من أطباء وممرضات.

بعدها بعشر ساعات، تم التوصل أخيراً إلى اتفاق حول المخرج الآمن. لكن كل شخص بمفرده ولن تقدم المساعدة للمصابين. خرجت من المكان خافضاً رأسي أسفل مستوى الرصاص الذي أطلق فوق رؤوسنا عمداً لتصويرنا مذعنين خافضين رؤوسنا نهرول بين صف من الضباط والجثث المتناثرة في كل اتجاه من حولنا. أتذكر أني نظرت في عيني ضابط ضخم الجثة، ابتسم في وجهي ابتسامة متكلفة أثناء إعادة تلقيمه لخزنة سلاحه ثم استمر في إطلاق النار. تجولت في شوارع القاهرة المألوفة كالموتى الأحياء، لم أكن أشعر بشيء وشعرت بكل شيء في آن واحد. كنت أحاول استيعاب ما حدث. أخبرت نفسي قائلاً بالتأكيد لم يكن هذا الهول حقيقياً ولا بد وأني أمر بأسوأ أنواع الكوابيس.

لاحقاً شاهدت مقاطع فيديو تظهر المستشفى الميداني الذي تلقيت فيه العلاج. بعد وقت قصير من مغادرتي له، أضرمت قوات الأمن النار فيه رغم وجود العديد من المصابين بداخله.

بعدها بأشهر عديدة، عندما كنت في السجن، التقت عيناي بعيني ضابط شرطة رافقني من زنزانتي إلى جلسة استماع في واحدة من المحاكمات الصورية العديدة التي أقيمت بعد المجزرة. نظر إليّ كما لو أننا التقينا من قبل. بعدها أدركت أنه كان نفس الضابط الذي نظرت في عينيه عندما كنت أغادر الميدان.

بدا واضحاً بالنسبة لي أن شعوره بالذنب أفقده وزنه وقدرته على النوم. أفصحت تلك المسبحة التي تدلت من يديه المرتعشتين والانتفاخ تحت عينيه بكل شيء. كان محملاً بذنب الأرواح البريئة التي أرداها قتيلة وظلت تطارده في يقظته ومنامه. تبسمت، لأني لم أعرف طريقة أخرى أستجيب لها لمفارقة مشاركة الصدمة مع شخص أذاق بعضاً من بني وطنه صنوف الهول. خفض رأسه إلى الأسفل كما فعلت أنا أثناء خروجي من ميدان رابعة. بدا خائفاً وبلا حول ولا قوة. كان بإمكاني أن أرى مدى ثقل الذنب الذي يحمله. حاولت ألا أشعر بمرارة الواقع الذي يعود فيه إلى منزله وعائلته ذلك اليوم وأعود أنا إلى السجن.

مثلت عملية القتل الجماعي في رابعة قبل 5 سنوات الآن بداية موجة قمع غير مسبوقة اجتاحت مصر في ذلك اليوم. خنقت هذه الحملة المجالين السياسي حتى بالنسبة لتلك الأصوات المعارضة من داخل النظام والجيش. قتل الآلاف واعتقل عشرات الآلاف من بينهم مواطنون أميركيون، دون أي اعتبار لمتطلبات العدالة والإجراءات القانونية. عمَّت ممارسات الإخفاء القسري والموت في أماكن الاحتجاز والتعذيب والاعتداءات الجنسية من قبل الشرطة ربوع مصر حتى أصبحت من سمات الحياة اليومية للمصريين.  

يتعارض صمت حكومتنا على انتهاكات حقوق الإنسان في مصر التي تعد أحد المتلقين الرئيسيين للمساعدات العسكرية الأميركية، مع المبادئ الأميركية الأساسية. جعلت الـ77 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب التي قدمناها لمصر منذ 1948، بلدنا مشاركاً ومتواطئاً في القمع والوحشية المستمرة التي تمارسها مصر ضد شعبها. أصبح شعورنا بالرضا عن أنفسنا مخزياً وصمتنا مدوّياً.

هذه المدونة مترجمة عن موقع The Washington Post.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد سلطان
ناشط في مجال حقوق الإنسان
معتقل مصري سابق ومناصر ومدافع عن حقوق الإنسان، ومؤسس مبادرة الحرية.
تحميل المزيد