صورة الإنسان الآلة كما عرفه الطبيب Fritz Khan: الإنسان آلة يتم استخدامها من قبل الآخرين.
كثيراً ما يشكو الطلاب (وأنا أوّلهم) بعد عملٍ شاقٍّ على الحاسوب أو بعد فترة امتحاناتٍ مُجهدة من عوارض الإرهاق كشدّ في عضلات الكتف وآلام الرّأس، فيلجأ مُعظمنا إلى الطبيب أو مباشرة إلى تناول أدوية ضدّ الصُّداع، مُتجاهلين الأساس المبنيّ عليه الطب والصّيدلة – وهو "النّظريّة البيوطِبيّة" أو النموذج الحيوي الطبي، النموذج الواصِم الذي يُمثّلُ وجهة نظر علمية بحتة حول الجسد وأمراضه، فيتعامل مع أجسادنا وأمراضها حسب القواعد الصّارمة التالية:
- الجسد هو كائن حيّ يعمل كآلة ويمكن تحليله وتفكيكه.
- المرض والعافية في علاقة ديكوتومية (أي متنافيين وشاملين).
- كُلُّ خلل له أسباب أي هنالك دائماً علاقة سببيّة.
- الجسد والنفس يعتبران أمرين مُنفصلين.
- تجاهل التصور الذاتي للمريض وتفاعلاته النفسية.
- تجاهل علاقة المريض والطبيب.
- تجاهل العوامل الاجتماعية.
الصورة من دراسة: كيف تؤثر وضعية الجسم وحالته على مستوى الطاقة في أجسامنا.
لقد أُجريت دراساتٌ عديدة حول العلاقة بين تحرّك الجسم ووضعياته على حالاتنا النفسية والروحية، وقد أُثبتت مثلاً أن الوضعيّة المُنحنية تعزّز في الإنسان مشاعر سلبيّة كفقدان الأمل والإحساس بالغثيان وسيطرة أطياف الذاكرة المؤلمة والحزينة على عقله. بينما ترفع حركاتٌ كالقفز ـ مثلاً ـ شعورنا الذاتي بالطّاقة الإيجابيّة.
وهذا ما يذكرنا بقول عمرَ بن الخطّاب ـ رضي اللّه عنه ـ في الرجل الذي كان يمشي محني الظهر: "ما بال هذا يمشي هكذا؟ أهكذا يكون النُّسك بالتَّماوتِ في المِشيةِ والهيئة؟ فإذا مشى أحنى قامتَه وإذا قام في الصّلاة نكس رأسه وكتفيه؟! اعتدل في مشيتك وأظهر عزّة الإسلام".
وتُبيّن الدّراسات جليّاً مدى العلاقة القوية بين الجسد والرّوح، وأنهما ليسا خطّين متوازيين لا يلتقيان ولا يتقاطعان.
فقد وصف "انتونوفسكي"ـ صائغ مفهوم آلية نشوء الصّحَّة Salutogenesisـ عوامل كثيرة من شأنها أن تؤثر على الصحة العامة وعلى صحّة الفرد. تُقسََّم مُحدِّدات الصحة هذه إلى ثلاثة أقسام:
- العوامل الاجتماعية – الاقتصادية.
- أنماط الحياة.
- عوامل فرديّة: كالعمر والجِنس والعوامل الوراثيّة.
إن الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد والمُجتمع، تؤثر تأثيراً كبيراً على الحالة الصحيةـ خاصّة المؤثرات الاجتماعية / الاقتصادية ـ كالوظيفة والرّاتب والدّعم الاجتماعي والعوامل الشخصية التي تعمل دافعاً لعجلة المستوى الصّحّي للإنسان: إما إلى الأمام أو إلى الخلف.
ليست فقط العوامل المذكورة آنفاً هي وحدها التي تلعب دوراً هاماً، وإنما أيضاً الموارد المُتاحَة للإنسان هي حجر أساس في هذا البُنيان. إن نموذج المتطلّبات والموارد حسب العالِم "بيكَر" Becker، يركّز أيضاً على تنمية وتقوية الموارد البشريّة لكنّه يتطرّق أيضاً إلى المُتطلبات بأنواعها:
– المتطلّبات العُضويّة والنفسية الداخلية: فيجب التخلص من أية عوامل تُثقل كاهل الإنسان بما لا يطيق، وأيضاً من أية عوامل تُقَلِّل بدرجة مُفرطة من نشاطه. وهُنا تكمن أهميّة أن يعي الإنسان قدراته وحدوده ويقف عند حدّها، ويذكرنا هذا بقول عُمر بن عبدالعزيز: "رحم الله امرءاً عرف قدرَ نفسه".
– المتطلّبات العُضويّة والنّفسيّة الخارجيّة: إن عدم تواجد إمكانيّة فحص مختصّ لمكان العمل على الحاسوب أو طاولة المكتب، وانحسار التوجيه لكيفيّة الجُلوس الصحي، وانعدام المُراقبة للظروف الاجتماعية والعوامل البيئيّة تُشكّل أيضاً مُؤثّراً وموتّراً كبيراً.
– الموارد الخارجيّة: تحت الموارد الخارجيّة تندرج العوامل البيئيّة لمكان العمل والدّراسة، وكذلك نجاعة الظّروف الاجتماعيّة (مثلاً نجاعة نظام التّعليم). وعلى الصّعيد الشخصي أذكر مثلاً الدّعم الاجتماعي والقدرة على الاندماج، كما يلعب الدّخل المادّيّ دوراً لا بأس به.
– الموارد الداخليّة: تندرج تحت الموارد الدّاخلية العوامل الوراثيّة والمركّبات الوظيفيّة والنّفسيّة المُكتسبة لِمواجهة المُتطلّبات. فالقوّة الجسديّة مثلاً وكذلك الصحة النفسية وتحسين القُدرة على مواجهة المشكلات وتحسين مَلَكة التواصل الاجتماعي تعتبر عواملَ قوّة ودعم في هذا الصّدد.
الـكَـرْب – stress
(ونعوذ بالله من همِّه، كما استعاذ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه لما فيه من إمراض للبدن، وإذابة لقواه، وتشتيت للفكر واستهلاك للطّاقة، وهو ما يهدر أوقاتنا ويفوّت علينا الخير الكثير ويشغلنا عن الواجبات والطّاعات).
إن وتيرة نظام الحياة المُتسارِعة بِصَخَبها ومُتطلباتها الشّاقة تكاد تطغى على إنسانيتنا وروحانيتنا، فإننا لا نكاد نحاول الاندماج مع إيقاعها حتّى نقع في دوّامة لا تنتهي أَزَماتُها. إنّ عدد المكروبين (الأشخاص المُصابين بالتّوتر المرضيّ) في الدّول المُتحضرّة ـ خاصّةـ يتفاقم يوماً بعد يوم.
الكَرْبُ هو حالة تفاعُل الجسد تجاه عدم توازن بين ما يُسمّى "العوامل المُوَتّرة" والتي تُخلّ بحالة الاستتباب في الجسم Homeostasis والتي تتشكّل لنا على شكلِ اضطراب بعمل الجهاز العصبيّ.
والعوامل المُوتّرة هي أعباء سلبيّة تنتج عن تراكم أعباء يوميّة وحيثيات جسديّة كالجوع والألم، أو عن أعباء مزمنة كأعباء الدّراسة أو العمل المضنيّ.
إنّ عظمة الخَلق الرّبانيّة تتجلى حتى في كيفيّة تعاملنا مع الإجهاد والضّغوط، فإن سلوكيات الإجهاد تختلف بين الخَلق، وتتشكّل على شكل ردود فعل مُتفاوتة وأعراض مرضيّة غير متجانسة، مثلاً:
أعراض جسديّة:
توتّر عضليّ، صرير الأسنان، التعرق الزّائد، آلام الرأس والدّوخة، آلام البطن، الغثيان، الإسهال أو الإمساك، الإرهاق، خفقان القلب، الهبّات السّاخنة، طنين في الأذن.
أعراض شعوريّة:
العنف، القلق، الخوف والهروب، التوتّر، انحسار الرّغبة، ضعف مَلَكة القرار، عدم التحكّم بالمشاعر.
أعراض فكرية:
انعدام القدرة على التّركيز، مشاكل في الذاكرة، اختلاط الأفكار، انعدام روح المرح.
أعراض سلوكية:
التهرّب، اضطراب النّوم، عادات أكل غير صحيّة، اللّجوء إلى التدخين.
أعراض اجتماعية:
العُزلة، الحاجة إلى علاقة وثيقة، علاقات غير صحيّة، صراعات دائمة.
تُعتبر الضغوط النفسية والإجهاد الرّوحاني واستجابة الجسد لها (كارتفاع ضغط الدّم وازدياد وتيرة الخفقان، وتوقّف وظائف أخرى لا تُساعد على التّجاوب للضّغوط كالهضم مثلاً) على المدى القصير – ما لم تصل الكرب المرضيّ – حالة طبيعية وصحيّة للإنسان، فبعد تجاوز حالة الضّغط هذه تعود كل منظومات الجسد إلى عملها الطبيعي، ويعقب هذا التوتر حالة من الاسترخاء في جميع هذه المنطومات، بل ويتمّ مكافأتها بإفراز هرمونات السّعادة من مراكزَ خاصة في الدماغ، وهذا الاسترخاء الذي تلا التوتر يلعبُ دوراً هاماً في عملية التعلم والتأقلم عند الإنسان.
فالكرب سُنّةٌ في الخَلق وقد أكد ذلك قولُ ربنا جل وعلا "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)"، وهي عمليّة طبيعيّة ونافعة، بها نتجاوز تصاريف الدهر ونوائبه وحِدثانه، وبها نُحسن أداءنا في العمل، وفي الدّراسة رغم أجواء المنافسة ورغم المشاقّ ورغم فشل المنظومة التعليمية أو سوء تقديم المعلم أو سوء تعامل مدير العمل معنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.