وضَعَتْ حقيبتها الثقيلة بعد حملها ساعات طويلة، وودّت لو تقفز عالياً تعانق الأشجار، شعرت بذلك الوخز الخفيف في قلبها، وكأنها وقعت في الحب للتو، تركت لشفتيها حرية الابتسام، وبدأت تحلم بالجلوس على ضفاف نهر تفصل بينها وبينه خطوات، تلك هي الطفلة التي انطلقت داخلي، مودِّعة كل الأحمال الثقال، عندما وصلت إلى هذا المكان الجميل.
على بعد أمتار من قرية بعيدة في الريف التركي تُدعى "دوكوزديرم" التحقت بمخيم تدريبي بعنوان: "كيف تحكي الحكاية؟"، مع الحكّاء الأكثر إمتاعاً بالنسبة لي أسعد طه، بعد ساعات سفر طويلة وصلنا للمخيم، سبعة عشر متدرباً من دول عربية مختلفة، بعد ساعات في حافلة أقلَّتنا من مدينة إسطنبول يبدو أننا وصلنا، من بعيد تأتي أنغام موسيقى غريبة وجديدة على مسامعنا، وقفنا داخل الحافلة لنرى الفريق الإداري للمخيم يستقبلنا بابتسامة أنستنا مشقة السفر، وترحيب حار لم نتوقعه.
"طاهورة بارك" هو المقر المختار، يمتلك المكان جمالاً عذرياً، لم تنتهكه المدنية بعد، فشبكات الهواتف والإنترنت شحيحة، فيما تعانق الأشجار عنان السماء، في كل الأنحاء تشاهد مساحات خضراء، وفي الجوار نهر "يورك ميلين" يجري بسرعة، تزيّنه قوارب خفيفة ملونة، تعج بحيوية ركابها، بعد أن قرَّروا المقامرة على سطح النهر الأكثر شهرة بممارسة رياضة التجديف.
على بعد أمتار قليلة تترامى المباني الخشبية التي شيَّدها صاحب المكان، ويبدو أنه قرَّر أن يفقد المكان عذريته بإحسان يليق بهذه الطبيعة البديعة، فبنى أكواخه من أخشاب الأشجار ذاتها.
"بنظرة سريعة يبدو المكان ممتعاً، وحتماً سأحصل على متعة المشي على ضفاف النهر، والاختباء بين الأشجار، والانفراد بذاتي كثيراً، سأفتقد صديقتي العزيزة حنان، وسأشعر بالخيانة؛ لأنني سأستمتع وحدي بالتأمل هنا"، هكذا حدَّثت نفسي متمنية بعض الراحة من سفر طويل، وهموم أثقلتني لشهور طويلة، لكن الواقع كان مختلفاً.
اليوم الأول مرَّ سريعاً وموجزاً، فقد وصلنا حوالي السابعة مساء، تعرَّفنا على رفقاء الغرف التي قرَّرت الإدارة أن تكون ثنائية لوأد الخصوصية، ثم تناولنا عشاء خفيفاً وصعدنا بانتظار الخلود للنوم، تمهيداً للعودة في السابعة صباحاً لتناول وجبة الإفطار.
لم أستسلم للنوم بسرعة، تحدثت قليلاً مع رفيقة الغرفة التي كانت تعرفني عبر الفيسبوك (نشوى)، كم هي طيبة وجميلة وبسيطة هذه الفتاة، تبادَلنا بعض الحكايات ثم غلبَنَا النعاس، بعد وقت قصير جاء وقت الاستيقاظ، ارتديت ملابسي وغادرت الكوخ نزولاً إلى المطعم عبر سلم حديدي طويل ينبئ بيوم يشبهه.
تناولت طبقاً ووضعت بعض الجبن والزيتون والخبز، وبدأت إفطاري، لماذا جئت إلى هنا؟ سؤال يطن في رأسي، مشاعري متضاربة، فها أنا أجلس بين غرباء أتناول طعاماً غريباً في انتظار شيء ما لا أعلمه بعد، وهل حقاً الأمر يستحق كل هذه المشقة؟! وجدتني أسأل نفسي مجدداً.
وسط المخيم تناثرت كراسي بلاستيكية فيما يشبه نصف دائرة، حيث سنبدأ أولى محطاتنا، قرر الأستاذ أن يكون التعارف من نوع خاص، بحكاية كل منا عن نفسه لمدة ثلاث دقائق -عند الأستاذ أسعد كل شيء بقواعد الحكاية والنوم والطعام عدا التعبير عن رأيك فيمكنك قوله متى شئت وكيفما شئت- جاء دوري الآن، يا لها من وقفة صعبة كل العيون تحدق فيّ، لا أعرف ماذا أقول تركت للساني العنان، فبدأ حيثما أراد، وانتهى الوقت قبل أن أنتهي.
وبين هذه الدقائق الثلاث ذابت سنوات عمري، فوجدتني أتأرجح بينها فيما كانت قدماي ترتعشان بقوة، تناسب تلك اللحظة التي أحكي فيها عن نفسي، وكأنني أتعرف عليها للمرة الأولى، حسناً لقد مرّت سنوات طويلة حتماً تحمل حكايات أطول من مجرد ثلاث دقائق، لماذا كنت قلقة إذاً؟!
مرّ وقت التعارف بتوتر يليق بغرباء، لكن تخلله بعض المرح، انتقلنا إلى مكان يشبه الكوخ، يبدو أنه بني خصيصاً من أجلنا، فسقفه مزدهر بأقمشة ملونة، وأرضيته تزدان ببساط عربي منقوش بألوان جميلة، جلسنا على راحتنا نتكئ على وسائد تشبه مجالس أهل الخليج، المكان مريح ولا يشبه حجرات الدورات التدريبية ولا طبيعتها، والمحاضر يجلس وسطنا، ويشاطرنا الحوار من طرفين، وليس من جهة واحدة، كما تعودنا، مرّ الوقت وخفَّت وطأة التوتر، وتبادلنا حوارات عديدة حول الفيلم الوثائقي وصناعته.
في اللحظات الأولى وجدتني مرتبكة، بعيدة وقريبة في الوقت ذاته، قلبي هنا مع كل هذا الجمال، ولكن شيئاً ما في روحي لا يرافقني، جزء منها هناك مع ابنتيَّ اللتين تركتهما في بلدة بعيدة للمشاركة في ذلك المخيم، أو دعنا نسميه المغامرة، إلى أن وجدتني في لحظة ألتحم مع هؤلاء الذين أتوا من بلدان متفرقة رغبة في التعلم، ألقيت النكات وشاركت في الحديث، وكنت الأكثر ثرثرة، يا لهذه اللحظة، كم هو ممتع أن تتخلى عن كل شيء، وتفكر فقط فيما يحدث حولك، تعيشه بقلبك وتندمج في ذراته من دون خوف.
مر الوقت سريعاً، بين النقاش والغذاء ومشاهدة الأفلام والعشاء وموعد النوم، انقضت أربع عشرة ساعة من دون ملل؛ بل بكثير من المرح، نعم أربع عشرة ساعة من السابعة وحتى التاسعة، نقوم بجميع الأشياء معاً، ألم أقل لك إنه ليس تدريباً، يمكنك أن تسميه معسكراً.
قبل النوم تناولت مذكرتي لأدوّن تفاصيل اليوم الأول، تذكرت بعض قواعد الفيلم الوثائقي التي ناقشناها خلال اليوم، كانت القاعدة الأولى أن تكون مبدعاً في اختيارك، تنفست ببطء، ولاحظت أن ما قيل ليس مجرد كلام عادي يُقالُ لندوّنه على ورق، بل هو تطبيق واقعي، فها هي القاعدة الأولى ماثلة في اختيار مدربنا لهذا المكان البعيد الجميل.. دونت الجملة "كن مبدعاً".
فكّرت قليلاً، وخمَّنت القاعدة الثانية "الشغف"، وأحياناً يسميه الأستاذ "الدهشة"، يبدو أن هذا ما حدث لي، شعور ينسيك كلَّ شيء، ويجعلك تعيش الحاضر بكل نبضاته، وكأن قريناً قد تلبَّسك فلم تعد أنت كما كنت، بل صرت شخصاً يرى كل ما حوله بشكل أجمل، يحركك مؤشر من نوع خاص، إذا صادفتك تلك اللحظات استثمِرها وعِشها بكل ما فيك، فإنها صعبة التكرار "كان يوماً ممتعاً" هكذا أنهيت مدونتي الأولى.. وغرقت في النوم.
كنت أعتقد أن اليوم الأول هو الأمتع، ولكن ما حدث في اليوم الثاني قلب الموازين…!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.