عانت باكستان منذ تأسيسها من نفوذ العائلات الإقطاعية الكبرى وتغوّلها على السياسة، وذلك على مستوى الولايات والمستوى المركزي، ما عنى أن ّالسياسة المحلية كانت دائماً تعبيراً عن مصالح هذه النخبة التي وصفها إقبال أحمد الفيلسوف الباكستاني المعروف، بأكثر ضرراً للبلاد من النخبة الرأسمالية، فالأخيرة برأيه، تخلق الوظائف والفرص من أجل أن تتحرك الصناعة والتجارة التي هي مصدر غناها، فينتفع من ذلك العديد من الناس رغم طبيعتها الجشعة، غير أنّ النخبة الإقطاعية تستعبد النّاس دون مقابل ولا ترى حاجة لأي تطوير أو تشارك مع الطبقات الأخرى. هذا الوضع جعل الأرض، وهي مصدر الثروة في المجتمعات الزراعيّة، حكراً على فئات محدودة من المجتمع تتعامل مع الساكنين عليها والمنتفعين منها بمنطق الأمر والنهي، ولذا وإن كان هناك أحزاب سياسيّة وانتخابات في باكستان، فإنّها طالما عانت من ظاهرة الاصطفاف الجماعي خلف العائلات الإقطاعية، مما جعل الديمقراطية حالة طقوسيّة مفرغة.
عزّز هذا الواقع الدور الكبير الذي لعبه الجيش في مسيرة تأسيس باكستان وحمايتها، إذ يعدّ نفسه الأب الشرعي لجمهورية باكستان الإسلامية، وهو الضامن الأساسي ليس لأمنها فحسب وإنّما لوجودها كدولة، والراعي الحقيقي لمصالح أبنائها، في ظل حالة من المواجهة الدائمة مع الهند، الشقيق الأكبر، وضمان ضد الفساد الداخلي المستشري والذي أصبح من طبيعة النظام، بحكم تمكّن العائلات السياسيّة منه، ولذا نرى أنّ الجيش الباكستاني قد حكم البلاد بشكل مباشر نصف المدّة منذ استقلال باكستان، ولا يكاد يغيب عن دوائر الحكم بشكل أو بآخر حتى ولو كان بيد أي من الحزبين الكبيرين، حزب الشعب الباكستاني بقيادة عائلة بوتو، وحزب الرابطة الإسلامية باكستان تحت عائلة شريف، أمّا الأحزاب الأخرى فتأثيرها ضعيف أو محلي على مستوى الولايات.
إنّ هذا الوضع السياسي الفاسد أعطى الجيش صفة المنقذ الذي يتدخل دائماً عندما توشك الأمور أن تخرج من اليد، فهو النصف الآخر من المعادلة الباكستانية التي لا تعاني من الفساد والمحسوبية وانعدام الكفاءة والجهويّة كما هو الحال مع الأحزاب السياسيّة، كما يراه عامة الباكستانيين. علاوة على ذلك، فإنّ الجيش الباكستاني قد حصل على مكتسبات لمنتسبيه تجعله قبلة النخبة من أبناء باكستان والذين يؤهلهم الجيش تأهيلاً استثنائياً في الداخل ويرسلهم في بعثات خارجيّة إلى أرقى المؤسسات التعليمية، فأصبح الجيش الباكستاني والقوات المسلحة مؤسسة نخبوية ذات كفاءة ومصداقيّة عالية خلافاً لأكثر مؤسسات الدولة، وإن كانت هذه الصورة قد تراجعت شيئاً ما بعد حكم الجنرال برفيز مشرّف.
صحيح أنّ الجيش قادر على الوصول إلى حكم باكستان دون مشاكل تذكر، لكنّه يدرك أنّه لا يستطيع أن يبقى في الحكم إلى ما لا نهاية، فهو بحاجة لأن يستجيب لبعض المعايير المتعارف عليها دولياً في مجال شكل الدولة وإدارتها، والتي يمكن أن تعطي باكستان صورة البلد العصري والحداثي المعادل بل والمتفوق على جارته اللدودة وأكبر ديمقراطية في العالم، الهند. كما أنّ الجيش لا بد يعلم أنّ إدارة الدولة تختلف كثيراً عن إدارة جيش، لذا فهو بحاجة لحكومة مدنية تنهض بأعباء إدارة بلد ضخم مثل باكستان تمثل أمامه تحديات هائلة في مجال التنمية وإدارة الحياة اليوميّة للنّاس.
ولكن إذا كان الجيش بهذه القوة والتغلل لماذا لا يوقف الفساد؟ ليس من السهل تغيير طبيعة أي مجتمع بما في ذلك المجتمع الباكستاني والذي يعاني من نسبة أميّة مرعبة فضلاً عن الفقر والقبليّة، والبديل عن الأحزاب السياسية الفاسدة هو التنظيمات الإسلامية التي تعبر الأعراق والجغرافيا لكنّها تنظيمات ذات خطاب متخشّب، غالباً، غير مرغوب بها دولياً وتمتاز بقيادات معتدّة بنفسها يمكن أن تعمل على تقليص دور الجيش وقد تقود البلاد باتجاهات غير مواتية على مستوى السياسة الدوليّة، هذا إن كان يرغب بالفعل بإحداث هذا النوع من التغيير.
أمّا ماذا يمكن أن يستفيد من بقاء الوضع القائم أو التعديل شكليّاً عليه فهناك عدة أفكار يمكن أن تخطر بالبال في هذا السياق منها أنّ استمرار الوضع السياسي الحالي يبقي مبرراً قويّاً لعودته إلى الحكم كلما رأى ذلك أو رغب فيه تحت عنوان محاربة الفساد وإنقاذ وضع البلاد من الانهيار، كما أنّه يضمن له استمرار حصوله على امتيازاته التي اكتسبها على مدى عقود من الزمان والتي جعلت الجيش مؤسسة النخبة الأولى في البلاد، ويضمن له بقاء دوره المتضخم في صناعة القرار في البلاد والتي لا يمكن أن يحصل عليها في ظل نظام ديمقراطي مدني حقيقي، فضلاً عن أنّ بقاءه في هذا الموضع يمكّنه من ممارسة لعبة التخويف من الهند التي تبرّر حصوله على الامتيازات وتجعل البلاد بحاجة إلى الشعور بالحماية والذي لا يمكن أن يتوفر إلا في ظل الجيش.
باكستان أمام صناديق الاقتراع
شهدت باكستان يوم أمس الخامس والعشرين من تموز/يوليو الموافق الأربعاء انتخابات عامة هي الحادية عشرة في تاريخها، وبلغ عدد الناخبين المسجلين 106 مليون ناخب، وذلك لانتخاب 270 عضواً في الجمعية الوطنية (البرلمان) و570 عضواً في أربع مجالس نيابية محلية لفترة تمتد لخمس سنوات (2018-2023)، وقام على تأمين العملية الانتخابية حوالي ثمانمئة ألف رجل أمن بين عسكري وشرطي، وسط شكوى من وسائل الإعلام والأحزاب أنّ الجيش قد تدخّل وأغلق العديد من المؤسسات الصحفيّة المحسوبة على الجهات المنافسة لعمران خان والذي يعدّه الكثيرون مرشح الجيش في الانتخابات، فيما يبدو أنّ المنافسة الحقيقيّة هي بين حزب عمران خان، حركة الإنصاف الباكستانية وحزب نواز شريف بقيادة أخيه شاهباز، الرابطة الإسلامية باكستان، أمّا حزب الشعب فسيكون العنصر المرجح في البرلمان المقبل.
الحصان الأسود
يعتقد الكثيرون أنّ التغيرات التي حصلت في الساحة السياسية الباكستانية على صعيد تقويض مكانة الحزبين الرئيسين في البلاد، الرابطة الإسلامية باكستان، وحزب الشعب الباكستاني، ونشوء حزب جديد باسم حركة الإنصاف الباكستانية والتي أسسها عمران خان الكابتن السابق لمنتخب باكستان في لعبة الكريكيت، اللعبة الأكثر شعبية في باكستان، ليست بعيدة عن أصابع المخابرات العسكرية الباكستانية، بما في ذلك التخلص من رئيس الوزراء السابق نواز شريف بتهم الفساد، كما رأينا على وسائل الإعلام.
وهناك اعتقاد شائع أنّ من أسباب الإطاحة بنواز شريف تقربه من الصين أكثر من اللازم، ورفضه المشاركة بقوات عسكرية باكستانية في الحرب السعودية والإماراتية في اليمن، إذ أنّ الوثيقة التي أدين نواز شريف على إثرها بالتزوير والتي تثبت أنّ لديه استثمارات خارجية غير مفصح عنها، جاءت من الإمارات، وربما لعب الجيش دوراً في هذا المجال. وكان البرلمان الباكستاني والذي يحظى فيه حزب نواز شريف بالأغلبية، رفض إرسال قوات باكستانية إلى اليمن مما ألّب السعودية والإمارات والتي لها نفوذ كبير في البلاد.
واليوم وقد ظهرت مؤشرات تدل على فوز حزب عمران خان في الانتخابات على المستوى المركزي وفي الولايات، فأصبح من المرجح أنّه سيكون باستطاعته بالتحالف مع الأحزاب الصغيرة والمستقلين تشكيل الحكومة المركزيّة وحكومة ولاية البنجاب أكبر الولايات الباكستانية وأهمّها، دون الحاجة إلى التحالف مع الحزبين التقيلديين، الرابطة الإسلامية وحزب الشعب، اللذين طالما اتهمهما بالفساد وتخريب البلاد، هذا بدوره سيطلق مجموعة من التحديات الكبرى أمامه، منها محاولة الأحزاب الكبرى إثارة الشغب في الشارع وفي البرلمان، وفعل كل ما بوسعهم لإفشاله، بالإضافة إلى الجماعات التكفيرية التي ما زالت تمارس التفجيرات وتقويض النظام، كما أنّ علاقته بالجيش ليس من المضمون أن تبقى على ما يرام، فهو شخصية مستقلة ومعتدّة بنفسها، مما يجعله ينزع على الأغلب، إلى اتخاذ مسار قد لا يوافق رغبات المؤسسة العسكرية، منها أنّه كان قد أعلن على سبيل المثال، بأنّه سيعمل على إرجاع مئات المليارات من الدولارات المهربة إلى الإمارات العربية المتحدة وضخها في الاقتصاد الباكستاني، وإسقاط أي طائرة أميركية بدون طيار تستهدف المواطنين الباكستانيين، وهو ما يعني إغضاب الحلفين الرئيسين للجيش. تحديات كبيرة ستكون بانتظار هذا الرجل القادم إلى عالم السياسة من باب الرياضة، ولعله سيكتشف قريباً أن الأقوال والوعود أسهل كثيراً من الأفعال والتنفيذ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.