تعلو أصوات الزغاريد والأفراح من بيوت الجيران، ومن بيوت جيران آخرين تشع الكآبة والحزن وكأن نهاية العالم بعد أيام، أتساءل ماذا حدث فيجيبون: ظهرت نتيجة الثانوية العامة. ذكرتني تلك الثانوية بيوم تخرجي في الجامعة، نعم لم يمض الكثير، عام مر على آخر لقاء جمعني بالجامعة.. لكنه ذكرني بها، نعم لم أنسَ آخر لقاء، لم أنس الوداع على أمل اللقاء، لم أنس التفاصيل والأماكن ووجوه العاملين والوافدين.
نعم لا تزال ذكرياتها قائمة في عقلي، ذكريات لم تمحها الأيام -ولا أظنها تُمحى- لكن قلبي يشتاق لزيارتها وإعادة وصلها.. إنها العزيزة على قلبي.. "قهوة ظاظا".
ولمن يتساءل عن ذلك المقهى، فإن لم تكن طالباً في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية فلا أعتقد أنك تعرفها، هي ليست أحد مقاهي الإسكندرية العتيقة مثل "ديليس" المقهى ومحل الحلويات الشهير الذي كان مجلس الحكيم ومحفوظ عند قدومهما للإسكندرية، وفي "ديليس" صنعت كعكة زفاف آخر ملوك مصر الملك فاروق، وبالتأكيد ظاظا ليس كـ"اليت" المقهى الخشبي الكلاسيكي الذي تزدان جدرانه بلوحات بيكاسو وماتيس وأدهم وانلي وغيرهم.. بل إن ظاظا لا يرقى حتى لمقهى "البورصة التجارية" العريق.
ظاظا لا يزيد على كونه مقهى بلدياً لن تجد فيه شيئاً مميزاً إذا جلست فيه يوماً من الأيام، بل من الممكن أن تبغضه بسبب ارتفاع ضجيج الجالسين فيه ومعظمهم من طلاب كلية الهندسة جامعة الإسكندرية ونادراً ما تجد طالباً من أي كلية أخرى، فهندسة الإسكندرية كلية متفردة ومنفردة، منفردة في كونها تقع وحدها في حرم خاص بها في مجموعة مبان مستقلة عن باقي الجامعة ولا يشاركها في حرمها الجامعي أي كلية أخرى، فلا تجد طلاباً من أي كلية أخرى يجلسون على ظاظا، ومتفردة في كونها الكلية الأعرق في جامعة الإسكندرية، حيث إنها أولى كليات الجامعة والكلية الأولى في مصر التي بُنيت خارج القاهرة ما يكسبها مكانة خاصة في تاريخ مصر العلمي، وفي ضجيج طلابها تسمع سخريتهم الحادة اللاذعة من أعضاء هيئة التدريس والمقررات، تسمع قصصهم عن الجامعة والمدرجات، آخرون يذاكرون ويحلون أو ينقلون إجابات ما يقتضي تسليمه للجامعة، البعض يرفّه عن نفسه بلعب الدومينو أو الطاولة أو أوراق اللعب واحتساء المشروبات وشد أنفاس "الشيشة"، وآخرون يتناقشون في أوضاع البلاد السياسية، ومع اختلاف توجهاتهم وآرائهم يجمعهم أنهم طلبة في هندسة الإسكندرية ومن زبائن ظاظا.
المقهى يقع في شارع إبراهيم شوقي بالإبراهيمية، حيث لا يبعد سوى دقيقتين عن الباب الجانبي للكلية بشارع "أحمد قمحة"، أو كما نسميه شارع المكتبات، العمودي على شارع أبوقير الرئيسي، حيث يحيط بها مكتبات تصوير الأوراق وكتب الجامعة ما يجعله في موقع مميز، كما أن قربه من عربة الكبدة وعربة الفول أكسبه قدراً من الأهمية فوق ما له.
حاولت أن أعرف لماذا سُمي ذلك المقهى بهذا الاسم هل يعود لعائلة ظاظا أم أن مؤسسها كان اسمه ظاظا؟ لم أعرف فالإسكندرية لها مقاهيها ذات الأسماء المميزة مثل: مقهى كيخة في بوكلي، أو مقهى أنح في بحري، ولا يختلف ظاظا عن أي مقهى قديم من مقاهي الإسكندرية، طاولاته ومقاعده الخشبية العتيقة جلس عليها آلاف الطلاب من طلاب هندسة الإسكندرية، وعمر ذلك المقهى من عمر هندسة الإسكندرية أي منذ أكثر من 70 عاماً، ولا أعرف لماذا يكون ذلك المقهى الأكثر ازدحاماً من جميع المقاهي المحيطة بالكلية، بالتأكيد ليس بسبب قططه المزعجة التي أصبح كما نقول في مصر "صاحبة مكان"، تلك القطط التي لن تتزحزح من أي مقعد تعتليه مهما حدث، كما أن لها نصيب في أي طعام تحضره معك في المقهى هذا إذا أردت أن تنعم بوجبتك، وبالتأكيد لا يتميز ظاظا بمستوى خدمة وضيافة مميز؛ فعم هاني أقدم العاملين بالمقهى ومن يقوم بتحصيل النقود "الحساب" لم يعرف وجهه الابتسام طيلة الخمس سنوات التي جلستها على المقهى، حتى أني شككت ذات مرة في أن الرجل لا يبتسم في وجهي فقط لكني تأكدت من أنه لا يبتسم في وجه أحد على الإطلاق.
ومع كل هذا فكان لذلك المقهي جاذبية خاصة، جاذبية جعلتنا نترك المقاهي الحديثة الأقرب للجامعة والمزودة بأجهزة البلايستيشن ومكيفات الهواء لنجلس عند ظاظا.
تلك الجاذبية والراحة جعلتني أرشد أخي إلى ذلك المقهى وأعرفه بها في أول يوم له في هندسة الإسكندرية حين كنت أوصله، وكأني أسلمه الراية أو الشعلة المقدسة ليكمل المسير أو ليكمل الجلوس على ظاظا.
لا تتعجب من ذكر لكل تلك الأمور وعدم ذكر اشتياقي للجامعة نفسها، وإن كانت الجامعة تعني مدرجات الدراسة والمختبرات والمحاضرات فلم أشتق إليهم – ولا أظنني أشتاق- ولكني أشتاق لأجواء الجامعة، اشتاق لمقهى ظاظا، وإلى مخبوزات فرن هندسة، وإلى التلكؤ مع الأصدقاء في ردهات الكلية ولعب ماتشات البلاي ستيشن على أجهزة الحواسب، حتى شعور مقاومة النوم والبقاء مستيقظاً في محاضرات الفترات الأولى والمحاضرات التي لا أفهم فيها شيئاً اشتقت إليه، اشتقت لشوارع الكلية المشمسة النظيفة أكثر من اشتياقي للمدرجات المزدحمة الرطبة.
نعم للجامعة فضل عليّ لن أنساه، وكذلك لأساتذتي الذين أعطوني علماً ينتفع به جزيل الشكر، وكل لحظة قضيتها كان لها أثر عظيم في شخصيتي، ولكن ما أشتاق إليه حقاً هي الأوقات التي قضيتها في التفاعلات الإنسانية والاجتماعية خارج مدرجات الدراسة، فتلك الأوقات إن لم تكن أوقاتاً حصلنا فيها قدر من المعلومات العلمية والهندسية، ولكنها تركت في أذهاننا وأنفسنا ذكريات لن ننساها، ذكريات أيام رائعة في جامعة عظيمة ومدينة لا تُنسى.
لا أعلم متى أستطيع الجلوس على ذلك المقهى، وبالتأكيد جلوسي عليه بعد التخرج لن يكون كيوم كنت طالباً فيه، ولكن ذكرياتنا على ذلك المقهى ستبقى محفورة في ذهني، تلك الذكريات التي تولدت من لقاء برفقاء دراستي ونقاشات معهم ومتابعتي للأحداث العظيمة التي مرّت بها مصر، بل وحتى لعبي ومرحي ومذاكرتي في أيام الجامعة.. كل تلك الذكريات مرتبطة ليست بهندسة الإسكندرية فقط، ولكنها مرتبطة أيضاً بقهوة ظاظا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.