يجب أن أعالجك!

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/01 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/01 الساعة 12:21 بتوقيت غرينتش
Pensive young woman traveling with bus and holding smart phone. Wears casual clothes.

أتألم وأندهش كلما قرأت منشوراً لشخص انطوائي يعبر فيه عن طبع من طباعه، كالميل إلى العزلة أو كتمان الشكوى في محاولة منه "للشرح" و"توعية" من حوله بحقيقة أنه "مختلف" ولا يعمل وفق "كتالوج" الأغلبية، أملاً بأن يكفوا عن الضغط عليه "ليتغير ويسلك مسلكهم"، فتنهال عليه تعليقات أقل ما يقال عنها إنها "سطحية" -رغم حسن النية- لم تستوعب معنى المكتوب ولا "حاجة" الكاتب التي استفاض في شرحها، لتقدم له النصيحة بأن "يتغير" أو "كيف يتغير".

منذ ما يزيد على عامين كتبت المقال التالي، حاولت فيه توضيح أن سبب الاختلاف في تصرفات الشخصية الانطوائية عن الشخصية الاجتماعية ليس اختلاف "مهارات" تُكتسب ولكن تفاعلات هرمونية متباينة ومختلفة تماماً تدفع كل طرف للتصرف بالطريقة التي "تناسبه" و"تريحه"، كذلك حاولت الرد على أشهر "المأخِذ" على الانطوائيين وشرح ما لا يستوعبه الاجتماعيون عن طباعهم!

قرأت منشوراً على فيسبوك به حكاية طريفة:

"مرة أنا وأختي واقفين في المطبخ جيه يوسف ابنها بكل هدوء بيقولنا إنه اتخبط في رجله وبتوجعه أوي، فقولنا له معلش وكملنا كلامنا، قعد يقول اتخبط فيها إزاي وكده، واحنا مش مهتمين بردو، بعدين راح متعصب والله العظيم رجلي وجعاني حد يشوفهالي يا جماعة، هو لازم يعني الواحد يعيط ويصرخ عشان تهتموا؟ يوسف بيفكر ربنا يهديه كده وأما يكبر يبطل تفكير وميوجعش دماغنا بالمنطق ويبقى يصرخ ويعيط وخلاص زي باقي العيال".

لا أعرف عن الصغير يوسف أكثر من المكتوب أعلاه لكني أؤكد لكم أنه من الأقلية التي لا تتعدى نسبتها 25% من المجتمع وتصنف كشخصيات انطوائية، والتي من أبرز سماتها أنها تفكر وتعرض مشاكلها بهدوء وبلا دراما، أقول ذلك بمنتهى الثقة لأني واحدة منهم.

مررت بمواقف مماثلة، لم يُسمع صوت اعتراضي؛ لأني لا أتقن الصراخ والميلودراما، ولا أنسى تعليق لواحد من مديريّ السابقين بعد وقوع كارثة كنت قد حذرته منها، ورغم النقاش المطول بيننا والموثق في إيميلات عديدة، لامني بكل بساطة قائلاً: "عندما أكون على وشك السقوط في حفرة واجبك أن تجذبيني بعنف وتصرخي في وجهي لا أن ترسلي لي تحذيراً من الوقوع في الحفرة!"،

ألا يشبه ذلك تماماً ما قالته خالة يوسف: "متوجعش دماغنا بالأفكار والمنطق وكن طبيعي وصرخ!".

من سمات الشخصية الانطوائية الأساسية الهدوء في عالم لا يعترف إلا بالصخب والصوت العالي ويضعهما في مكانة تفوق مكانة الفكر!

كلنا نعرف ستيف جوبز، الرجل العظيم مخترع آبل، الحقيقة أن ستيف وزنياك هو المخترع الحقيقي لأول جهاز آبل في عام 1975، ثم شاركه ستيف جوبز صاحب الشخصية الاجتماعية ليؤسّسا سوياً شركة آبل.

وبفضل شخصية جوبز الصاخبة "أنصت" العالم لأفكار الانطوائي وزنياك، وحتى اليوم ترتبط آبل في أذهان الناس باسم ستيف جوبز البارع في التحدث أكثر مما ترتبط بصاحب الفكرة والاختراع "الحقيقي"!

نموذج بسيط لما يعانيه "الانطوائيون" من إجحاف في هذا العالم!

بين قلق الآباء من غرابة سلوكيات الابن المنطوي وضغوط المدرسة التي ترفع للآباء والأبناء على حد سواء الكروت الحمراء لأن الابن "غير اجتماعي" و"منطوٍ"! تبدأ معاناة الانطوائي مع الحياة مبكراً، فهل فعلاً الشخصية الانطوائية قاصرة أو مقصرة وتحتاج لتغيير سلوكها؟

نتائج دراسات وأبحاث عديدة في علم النفس كشفت أن هناك اختلافات جوهرية في طريقة عمل مخ الشخصية الانطوائية عن الشخصية الاجتماعية.

على سبيل المثال لا الحصر تؤدي عملية التواصل بين الأشخاص إلى إفراز هرمون "الدوبامين" في الجسم وتزيد الكمية المفرزة طردياً بزيادة التواصل، يستجيب الجهاز العصبي للشخص الاجتماعي لزيادة إفراز هذا الهرمون بشكل إيجابي فيشعر الاجتماعي بالسعادة وتزداد طاقته ونشاطه، بينما يستجيب الجهاز العصبي للشخص الانطوائي بشكل سلبي لزيادة نفس الهرمون، فيشعر بالتوتر والإرهاق وانعدام الطاقة!

إذاً هناك أثر "جسدي" للتواصل يختلف بين هذا وذاك، وليس للأمر علاقة بالمهارات أو القدرات!

بتأثير الدوبامين يحب الاجتماعيون التواصل ويستمتعون به ويسعون إليه بينما يُرهق التواصل الانطوائيون فينفرون من زيادته ويميلون لتجنبه!

سأحاول توضيح وشرح أغلب ما يُساء فهمه من "طباع" الانطوائيين:

1- "الانطوائيون لا يحبون الكلام"، الحقيقة أن ماكينة الحوار عندنا تعمل بوقود الاهتمام، فإذا كان الموضوع يهمنا سنتكلم ساعات وساعات بلا انقطاع، أما مواضيع الدردشة والتسالي فلا نطيقها ونعجز عن المشاركة فيها.

2- "الانطوائيون يعانون من الخجل"، الخجول هو من يرغب في التواصل ويعجز عنه لأنه يهابه أو لا يملك مهاراته. الانطوائي لا تنقصه مهارات التواصل لكن قد ينقصه الدافع. بمعنى أن تواصله انتقائي، يختار متى يتواصل ومع من ولا يكون تواصله إلا لهدف واضح ومرة أخرى أكرر لا نعتبر التسلية والدردشة هدف!

3- الانطوائيون "براويين" لا يحبون الناس، بالعكس نحن نهتم بصدق وأكثر من المعتاد، لذلك دوائرنا "صغيرة" و"محدودة العدد". لن أسألك "عامل إيه؟" إلا لو كان هناك "سبب" للسؤال وعندي اهتمام "حقيقي" بالإجابة. وسأسمع بإنصات وحضور ذهني وروحي، أقرأ ما بين السطور، وما يقوله الشخص بنبرة صوته وعينيه ولفتاته وزلات لسانه. فالأمر ببساطة إما أنك في دائرة اهتمامنا المكثف المحدودة العدد أو خارجها، مع كامل الاحترام!

4- "الانطوائيون يخشون الظهور والأضواء"، لا نحب الظهور لمجرد الظهور في حد ذاته كما يهوي معظم الناس ويتحينون الفرص لحكي أي كلام لإثبات الحضور، نظهر عندما تكون هناك ضرورة ولدينا مشاركة ذات قيمة حقيقية. باختصار نحب أن تشتهر "أفكارنا" لأننا نعتقد بأن لها فائدة وأهمية، لا أن تشتهر "أشخاصنا" وأسماؤنا.

5- يلام الانطوائيون على حب العزلة؛ لأننا نفكر كثيراً ونحلل كثيراً، هناك عواصف ذهنية في رؤوسنا طوال الوقت، نحتاج من وقت إلى آخر إلى الابتعاد عن كل شيء حتى نسترد طاقتنا، فالعزلة هي ملاذنا من صخب الدنيا عندما نشعر بالإرهاق!

نتعافى إما في عزلة تامة، أو جزئية فيها تواصل مع شخص أو اثنان نحتاج منهم إشارات المساندة وتكون كافية جداً لدعمنا.

6- "الانطوائيون لا يعرفون كيف يستمتعون بالحياة!"، والله نعرف ونستمتع بالحياة "بطريقتنا"!

نستمتع بأشياء تصنفها الأغلبية بأنها مملة أو "أولد فاشون" كالقراءة، والكتابة، والرسم، والموسيقى. بجلسة في الغروب أو الفجر على شاطئ يخلو من الزحام والإزعاج. بالسير وحدنا أو بصحبة شخص يفهمنا في أماكن طبيعية مفتوحة. بالسفر إلى أماكن لا يعرفنا فيها أحد، فنكون مع الناس ولسنا معهم في نفس الوقت!

العوامل المشتركة في كل ما سبق أنها أنشطة توفر لنا "الهدوء"، و"مسافة مع الناس نتحكم فيها"، وبعض "العزلة"!

أكتب هذا المقال للصغير يوسف الذي لا يتقن الميلودراما، ولابني الأكبر الذي بدأ رحلة المعاناة لاختلاف طباعه عن أقرانه، أنتم مختلفون لأنكم مميزون، فلا تتأثروا بآراء قاصرة وسطحية.

الانطوائيون الأقلية بين العوام والأغلبية بين المفكرين والمخترعين وكبار الفنانين ومن غيّروا وجه العالم.

ومنهم أينشتين، نيوتن، لاري بيغ مؤسس جوجل، مارك زوكربيرغ مؤسس فيسبوك، بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت، ماريسا ماير رئيسة مجلس إدارة ياهو، غاندي، روزا بارك رائدة حقوق الإنسان، أفلاطون، أرسطو، كانط، ديكارت، أنجلينا جولي، مانديلا، وأغلبية المشاهير في كل المجالات باستثناء السياسة لأسباب أظنها واضحة بعد كل الشرح السابق لسمات الشخصية الانطوائية.

لا أقصد بذلك التقليل من الشخصية الاجتماعية، لكن توضيح أن للشخصية الانطوائية طباعها المختلفة ومميزاتها ونقاط قوتها، كما للشخصية الاجتماعية طباعها مميزاتها ونقاط قوتها، فلنتقبل هذا الاختلاف بعين تبحث عن فرص التكامل لا التعصب وفرض الرأي، وليكن لنا في نموذج التكامل الناجح بين ستيف جوبز وستيف وزنياك مؤسسي شركة آبل أسوة حسنة!

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سهى جاد
خبيرة في الإدارة ومهارات التواصل
تحميل المزيد