سمعنا مؤخراً عن خبر نسناس هارب من حديقة حيوان بالقاهرة فكيف بدأت هذه القصة؟
سنة ١٨٧١م، قرر الخديوي إسماعيل أن يطور القاهرة والجيزة ففكر في بناء حديقة حيوانات ضخمة تتحاكى عنها الدول، حديقة كبيرة جداً بها جزء خاص بالنباتات النادرة "حديقة الأورمان" وجزء خاص بالحيوانات النادرة، وطبعاً كان هناك جزء مخصص كمتحف، وجزء للاهتمام بالأطباء البيطريين، وبدأت أعمال البناء.
انتهت الأعمال، لكن الخديوي إسماعيل تم خلعه ونفيه، وأصبح الخديوي الجديد هو محمد توفيق باشا، وحينها كانت مصر محتلة من إنكلترا والبلد في حالة ثورة، لكن رغم كل هذه الأحداث جاء الخديوي محمد توفيق وافتتح الحديقة لعامة الشعب سنة ١٨٩١، وكان احتفالاً مهماً جداً في الوسط العالمي والإفريقي، وكانت تعتبر أول وأضخم حديقة حيوان في إفريقيا وسماها "جوهرة التاج لحدائق الحيوان في إفريقيا".
توالت الافتتاحات داخل الحديقة بحضور كل من حكموا مصر حينها، كافتتاح بيت الدب وبيت السباع والزواحف والبيت الحكومي، والكشك الياباني بمناسبة زيارة عاهل اليابان، وكل مناسبة كانت ترتبط بافتتاح جديد راق، مساحات واسعة وحيوانات بالرغم من القفص إلا أنها تعيش بشكل مريح ومناسب لها ويقوم بمتابعتها عدد من الأطباء ومسؤولي إطعام وحراس وجمهور متحضر، حتى وصلنا إلى آخر حدث وهو افتتاح الاستراحة الملكية ١٩٤٩.
بدأ كل شيء سنة ١٩٩٣، لما كانت المعاملة السيئة من حارس قفص الأسود وإهماله الشديد الذي أدى إلى نسيانه باب القفص مفتوحاً خرجت الأسود وافترسته، وبعدها فيل إفريقي غاضب من سلسلة رُبط بها فهاج وداس بدميه الحارس وقتله، وكانت هذه قضيتان مشهورتان وقتها.
بعدها بدأ الإهمال مع الحيوانات ومع الزوار، الحديقة التي كانت الأكبر في إفريقيا، أصبحت معتقل غوانتنامو للحيوانات التي بداخلها، تغير مزاج الحيوانات العام وأصبحت أكثر حدة وأكثر غضباً، تريد أن تتحرر، وبدأت في التحول تدريجياً لمساجين في أقفاص ضيقة، الاكل جودته سيئة للغاية وحريتهم مقيدة.
الحديقة باتت معتقلاً بمعنى الكلمة من موظفين حكومة قائمين على إدارتها وكل همهم هو الجلوس على المكاتب والثرثرة والرغي وتقاضي الراتب والمنح والحوافز وفقط، لا أكثر ولا أقل، إدارة قديمة روتينية بحتة.
سنة ٢٠٠٣ أعلن الاتحاد العالمي لحدائق الحيوان خروج مصر رسمياً من التصنيف العالمي.
سنة ٢٠٠٤ خرجت مصر نهائياً من الـWAZA أي خروجها من الاتحاد العالمي نهائيا وكان الإعلان مؤتمر صحفي وكانت فضيحة كبيرة وقتها.
وهذا بسبب أن الاتحاد أشار أن المسؤولين في مصر يتجاهلون توصيات الاتحاد العالمي، ويعاملون الحيوانات معاملة قذرة، والحديقة كلها زبالة وقاذورات ومياهها راكدة ومتفشٍّ بها الأمراض التي قضت فعلاً على أنواع نادرة من الحيوانات، ومعاملتهم للحيوانات بشدة كربطهم الاأفيال بسلاسل حديد، وجودة الأكل المتدنية القذرة وإلى آخره.
في ٢٠٠٦ وصل الإهمال أن الحيوانات في حديقة حيوان الجيزة والتي تعتبر من الأعرق في الشرق الأوسط، تصاب بأنفلونزا الطيور، ويتم إغلاقها ٣ شهور بسبب الإهمال الطبي، وبالتأكيد كما يعرف المصريون أنه لا توجد جهة حكومية تعين أو توظف أشخاص من خارج دائرة الموظفين، والمحسوبية هي السائدة في مؤسساتنا الحكومية.
في ٢٠٠٧ قام لص بمعاونة عدد من حراس الحريقة بسرقة جملين مغربيين نادرين، وقاموا بذبحهم وسرقة كبدهم ومجموعة من قطع اللحم وتركوا الجمال ورحلوا، والله العظيم، تخيلوا أنهم سرقوا أعضاء هذه الجمال النادرة حتى يقوموا ببيعها أو أكلها فقط!
ما بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٨ اختفى ٤٠٠ حيوان من الحديقة، بينهم زرافة وفهد أسود، وتم بيعها على أنها حيوانات أليفة.
في ٢٠٠٩ دخل شخص الحديقة وقفز على السور الخاص بقفص النسانيس، وضرب نسناساً حتى يفقده الوعي ويسرقه ويبيعه، ولحسن الحظ قبضوا عليه. هكذا وسط كل الناس!
في ٢٠١٢ طفل يبلغ ١٢ سنة، وسط الزحمة والناس بشكل عادي، لفّ حول الجبلاية عند قفص الأسود وقتما كان الحراس يخرجون الأشبال حتى تأخذ حظها من الشمس وسرق شبلاً من وسط الحراس وخرج به، تخيلوا بهذه البساطة
وباعه لشخص آخر بـ٣٥ جنية فقط من أبوالنمرس، وعاد ليسرق حيواناً آخر ولكن تم إلقاء القبض عليه، يعني قمة الأمان!
في ٢٠١٣ وبينما يقومون بحرق القمامة في الحديقة وسط الحاضرين وبشكل طبيعي وراء بيت الزواحف، النار اشتعلت بالشجر وحدثت حينها حرائق كبيرة جداً كانت ستحول الحديقة كلها إلى تراب.
في ٢٠١٤ اشتعلت النيران حرائق في ٢٥ نخلة بسبب سيجارة أحد الحراس، وكانت كذلك ستحرق الحديقة كلها لولا ستر الله.
في فبراير ٢٠١٤ فردا أمن من أفراد حراسة حديقة الحيوانات، سرقا غزالتين وطاووساً وخرجا بها ووقفا حتى يقوما ببيعها عند كوبري عباس، تخيلوا الأمر! وتم القبض عليهما بسبب غبائهما فقط.
في ٢٠١٦ في شم النسيم، ميكانيكي دخل بيت الزواحف وسرق ١٠ سلاحف كاملة وخرج، وتم إلقاء القبض عليه بمحض بالصدفة.
في نفس السنة ٢٠١٦، دخل شخص حديقة الحيوانات صباحاً وسرق ٤ صقور، متخيلين الحجم؟ خرج بها دون أن يراه أحد وأعتقد أنه تم بيعها من زمن! والأبشع أنهم اكتشفوا بالصدفة اختفاء ٤ صقور في الجرد اليومي ووجدوا أن السلك مقطوع، هكذا فقط وبكل بساطة!
وطبعا لن ننسى سرقة أثاث استراحة الملك فاروق وبيعها في مزاد على الإنترنت في أميركا.
بعيداً عن الإهمال الصحي والإهمال الأمني والريحة البشعة، المياه التي تشرب منها حيوانات الحديقة في مصر كالطيور وفرس النهر وغيرها راكدة، مليئة بالقمامة والقاذورات! الطيور تعوم فوق مياه صفراء مليئة بالأكياس وزجاجات البيبسي الفارغة وسمك آخر مات من تلوث الماء، وهذا بسبب أن موظفي الحديقة قفلوا الباب التي كان يوصل مياه النيل لشبكة المياه داخل الحديقة، وبعدها تعطّنت المياه وأصبحت غير صالحة تماماً والأنكى أنهم لا يقومون بتغيرها، هم فقط حفروا عدداً من الحفر يستخلصون منها بعض المياه الجوفية وشكراً.
– سؤال مهم هل يؤثر ذلك في الحيوانات؟
الحقيقة نعم، الحيوانات قبائل وشعوب كما قال الله، مخلوقات حية لها روح وتشعر وتتألم وتكتئب وكل الأحاسيس والمشاعر.
المعايير الدولية لإنشاء حديقة حيوان في أي مكان بالعالم هي أن تجمع حيوانات من بيئات مختلفة حتى تحاكي البيئة التي جاءوا منها، تساعده على الأكل والزواج والعلاج وتوفر له مساحة يعيش بها بحرية كما كان يحدث في أوائل عمر حديقة الحيوانات في القاهرة.
لكنهم في مصر يضعون دباً قطبياً في درجة حرارة ٤٠ وتفتح له مياه "دش"! يقيدون فيلاً من العاج الخاص به، يحبسون ١٠٠ شمبانزي في قفص مساحته 4 أمتار فقط!، يضعون أسدين في قفص مساحته مترين! يفصلون الأسود عن اللبؤات حتى لا تُنجب مرة ثانية، يؤذون الزرافة بسور مدبب تحت رقبة رقبتها، يتركون فرس النهر في مياه راكدة ملوثة، يرمون غزلان في أرض ١٠ أمتار، دون أن يسمحوا لهم بالخروج إلى أي مساحات واسعة حتى يخرجوا منها!
كل هذا ينعكس على الحيوانات نفسها في بلد أصلاً حقوق الإنسان به معدومة وتصل إلى الصفر، أنت في بلد الموظف الذي يتعامل بالورق والدمغات، في بلد الشباب اغتصبوا بها كلبة، متخيل أين نحن من الإحساس بالحيوان؟
في النهاية.. كيف انعكس هذا كله على الحيوانات؟
في ٢٠١٣ أنثى وحيد القرن "المهدد بالانقراض أصلاً" قتلت ذكرها بقرونها، تخيل؟
في نفس السنة، ٣ دببة رفضت الأكل كنوع من العصيان على سوء المعاملة، وماتت الـ٣ دببة انتحرت بالجوع وبرفض الأكل كأي مساجين في أي معتقل.
في ٢٠١٢ كنا نملك ٣ زرافات، انثيين وذكر، بعدما ماتت الزرافة الوحيدة التي كانت هي حيلتنا، ماتت بإنفلونزا الطيور بسبب الإهمال الطبي، واشترينا غيرها من جنوب إفريقيا هدية من الإمارات.
تخيل أيضاً أن الزرافة الأنثى الأولى ماتت بالحمى، سوء المعاملة جعل الزرافة الذكر "روكا" تنتحر بأن تخبط رأسها في السور الحديد إلى أن ماتت، الزرافة الثالية سوسن اكتأبت، وقبل الموت ولدت زرافة اسمها "عزيز" لكنه لم يكمل ١٠ شهور ومات بسبب أن أمه اكتأبت ورفضت ترضعه، وحالياً سوسن وحدها في طور الاكتئاب.
الحيوانات نفسها أصبحت غريبة، على غير طبيعتها، محبوسة في بيوت ريحتها قذرة مقرفة، كبيت الكلاب والضباع الذي لا تقدر على دخوله ثانيتين بسبب ريحته العفنة.
وأخيراً، قبل عدة أيام هرب نسناس من قفصه حتى يتنفس الحرية، هرب بكل طاقته بعد ما وضع خطة للهرب وكأنه فيلم "الهروب الكبير"، وكان على وشك عبور سياج الحديقة ليتنفس الحرية بنفسه بدلاً من حبسة الأقفاص الصغيرة الضيقة، لكنهم ألقوا القبض عليه في النهاية.
هناك من يقول إنه هرب من سنتين وليس من عدة أيام وإن هذه الصور قديمة، وآخرين يقولون إنه كان في فندق لتسلية السياح وهرب، وطرف ثالث يرى أنه كان في نادي القاهرة، أو أنه هرب من نزلة السمان.
وما بين كل هذه الأخبار، سواء هرب النسناس من حديقة الحيوانات أو من خارجها! عليكم أن تنظروا بتركيز إلى تعابير وجهه جيداً.
لأول مرة أشعر بملامح اكتئاب حيوان مسيّر ظاهرة على وجهه بهذا الشكل، نظرة بائسة على مستقبل وجوده في مصر، تعبير وجه حزين مع رفع حاجب يعبر عن البؤس وقتل الأمل داخله بالحرية، تخيل أن هذه تعابير وجه حيوان خلقه الله في الدنيا والمفترض أنه غير عاقل؟ تخيل أن النسناس المشهور بحركاته وبهلوناته وضحكه تكون تعابير وجهه بهذا الشكل وبهذا البؤس؟!
تخيل أن هذه طريقة التعامل الحرفية في القبض على حيوان هارب؟ يقومون بربطه من بطنه وتقييد يديه خلف ظهره؟ هذا معتقل رسمي وليس حديقة حيوان بالتأكيد.
وما بين زوار الحديقة من الأقاليم القاهرة والجيزة، وما بين البلطجية والطلبة الهاربين من مدارس الصنايع، وما بين جهل الإدارة الروتيني الورقي وسوء الإدارة الحقيقي لحديقة تاريخية بدأ من التأميم والضم لوزارة الزراعة، وما بين التغافل التام لحقوق الحيوان وسبل التطوير التي كان من الممكن أن تحول الحديقة هذه لمكان عظيم كما كانت بالماضي.
وما بين الواسطة والمحسوبية في التعيين وقلة التعيينات التي جعلت ١٩ دكتوراً بيطرياً فقط في الحديقة كلها، وما بين الإشاعات عن نقل الحديقة الأثرية واستغلال الأرض في البناء.
نحب أن نقول إن هذه الحيوانات كائنات حية مثلنا تماماً تشعر ولديها إحساس، والله، تتعذب، تكره الحبس، تصبح بائسة وتنتحر وتكتئب، لم يخلقها الله حتى نتسلى بها بل لأجل أن نعتني بها.
لا أعرف كيف يمكننا أن نشرح لموظف إداري أن الحيوان يشعر ويحس؟
كيف نقدر نشرح لطفل مشاغب وأمه مشغولة ولا تملك الوقت لتربيته
أن هذه الحيوانات تشعر؟ كيف نقنع الحارس الذي يحضر كل يوم إطعام انتهت صلاحيته أو كميته قليلة أن هذا الحيوان يشعر ويحس؟ كيف نقنع مدام عفاف أو أستاذ شاكر الذي خرج في إجازة أن الحيوانات تحس؟ كيف نقنع الدمغتين والموظفين الذين وقعوا على التصريح بأن الحيوانات تشعر وتحس وتتألم؟
إذا لم تتعلموا كيف ترحموا البشر، فعلى الأقل ارحموا الحيوانات!
المصادر:
"حديقة الحيوان" مهددة بالإقصاء من القائمة الدولي
بعد سرقة 4 صقور.. أشهر 5 حوادث شهدتها حديقة الحيوان
رئيس الإدارة المركزية لحدائق الحيوان لـ"المصرى اليوم": حديقة حيوانات الجيزة أصبحت "خرابة"
مصادر بحديقة الحيوان: انتحار "زرافة" بسبب مشاكسات الزوار
سرقة 5 صقور من حديقة الحيوان بالجيزة
صور.. الإهمال يضرب حديقة الحيوان بالجيزة
"حديقة الحيوان" شاهد على 4 ثورات.. والإهمال يهبط بها إلى الهاوية
في حديقة الحيوان بالقاهرة تنتحر زرافة وتثور الدببة وتصوم الأسود
انتحار الزرافة روكا في حديقة الحيوان بالجيزة بسبب معاكسات الزوار !
بيان حديقة الحيوان بالجيزة حول ضعف و هزال الأسود بسبب فضيحة مجاعة الأسود
الشكوك تحيط بمصير حديقة حيوان الجيزة
أما عن التقارير باللغة الأجنبية:
Review: Giza Zoo Might be the Worst Zoo in the World
Animals aplenty, space at a premium in Africa's oldest zoo
Bears chill out as Cairo zoo reforms
6 of the saddest zoos in the world
ولو أردتم قراءة تقرير الـWAZA ستجدونه بصيغة pdf على جوجل، ويمكنكم قراءته من الهاتف أيضاً بشكل عادي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.