المشهد الجزائري: ثلاثية الثيران المتصارعة (الجزء 1)

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/01 الساعة 15:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/01 الساعة 15:59 بتوقيت غرينتش

لأنَّه مشهد معقَّد يصعب على المتابع تحليله، وفكّ طلاسم رقعة يرسم فيها كلُّ طرفٍ ما يشاء، يبدو واقع السياسة الجزائرية غامضاً، ومستقبل الاستحقاقات الرئاسية المقبلة ضبابياً، وبين تحليل وآخر بون شاسع، لذا فلنسدِّد ونقارب، عسى أن نفكَّ شيفرة أعقد من شيفرة دافينشي، بالنسبة للمواطن على الأقلّ، بما أنَّ الانتلجنسيا -إن وجدت- قد اختارت معسكرها.

ألقت دعاية الدولة العميقة منذ 1962 في روع الشعب أنَّ ساسة الجزائر أكبر من أن يفهم الشعب سلوكياتهم وتصريحاتهم، وصنع دجَّالو الإعلام الموجَّه أساطيرَ مِن ورقٍ لشخصيات تكشَّفت سوءاتُها فيما بعد، ومع ذلك ما زالوا يفعلون.

لكنَّ الواقع أبسط ممَّا يصوِّر هؤلاء وأولئك، إنَّه نظام انتدابي متعدِّد الكتل والأجنحة، المتصارعة أيديولوجيا، والمتناقضة مصلحياً، والمتحالفة استراتيجياً مرة، وتكتيكياً مرَّات، ضدَّ بعضها وضدَّ الشعب، ومع قوى أجنبية، ومع طرف محلّي ضدّ آخر، في حلبة مغلقة لا يريد سدنة المعبد الأكبر أن يطَّلع الشعب على أسرارها، وكلُّ ما في الأمر أنَّ الصالح والطالح في النظام متفقان على مخاطبة الشعب من أعلى، واعتباره قاصراً وعاجزاً عن فهم ما يدور في أروقة النظام المظلمة، فالشعب كمحبِّي صراع الثيران، لكنَّه لا يلوِّح بقطعة قماش حمراء بعد أن خبِر عشرية حمراء، إنّه يشاهد ثلاثة ثيران ويصفِّق من حين إلى آخر فحسب.

كي نبسّط المشهد لا ينبغي الخوض في ماضي الكتل المتصارعة، وتعداد جرائمها السابقة، فهي جليّة للمتبصّرين، لذا سنكتفي بتحليل المشهد الآني الذي كشف السباقُ المحموم على النفوذ قبل رئاسيات 2019 بعضاً من ملامحه، حتى وإن كانت بعضها متواترة منذ سنوات.

على ساحة الأقوياء اليوم نجد ثلاثة تيّارات صلبة، تتدافع ليكون لكلّ طرف التأثير الأعظم في مستقبل الجزائر:

الكتلة الأولى تضم سدنة الدولة العميقة، أو مجموعة تيزي وزو، وتتكوّن من فلول المخابرات بشكلها السابق قبل تنحية الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق، هذا الأخير الذي ضربت مجموعته أطنابها في الإدارة والاقتصاد والإعلام والمخابرات، وتجاوزت ذلك لتكون لها قيادات قويّة في هيئة أركان الجيش.

تشكّل مجموعة تيزي وزو جناحاً متطرّفاً أيديولوجيا، عنصرياً عرقياً، استئصالياً عقدياً، ينحدر معظم رؤوسه من منطقة القبائل، على رأسهم الجنرال السابق قائد المخابرات توفيق الذي ما زال رغم تنحيته يملك تأثيراً واسعاً، وتتبعه أحزاب تحكم وأخرى تدَّعي المعارضة وشخصيات بارزة، مثل المرشح الرئاسي السابق علي بن فليس، والأحزاب اليسارية والليبرالية داخل السلطة الظاهرة وخارجها (السلطة الخفية)، ويمثّل رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي الوزير الأول أحمد أويحيى الناطق الرسمي باسم مجموعة تيزي وزو، وتملك المجموعة معظم وسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية والسمعية البصرية الناطقة بالعربية والفرنسية، يموّلها أثرياء حرب التسعينات الذين اغتنوا على جماجم ضحايا عشرية الإبادة الذين تجتهد وسائل الإعلام في وصفهم برجال الأعمال، ورؤساء المؤسسات، وتحاول إعطاءهم صورة المؤثّر في المشهد السياسي، رغم أنّهم ليسوا سوى واجهة لجنرالات العشرية من ضبّاط دفعة لاكوست وباقي الاستئصاليين، وجلّهم معروفون لدى الجزائريين بالأسماء والصفات.

ولا يتوقّف نفوذ الكتلة الاستئصالية عند هذا الحدّ، بل يتجاوزه إلى السيطرة على المنظمات الحقوقية والنقابات العمّالية، على طريقة التمدّد الشيوعي، خاصّة أنّ مايسترو المجموعة الجنرال توفيق تتلمذ على يدي الكاي جي بي الروسي، وأغلب إطارات تلك المنظمات شيوعيون يساريون يؤمنون بالتنظيمات الجماهيرية، ويعملون على إنشائها، واختراق ما هو موجود منها كما حدث مع التنظيمات الطلابية ونقابات العمال والأساتذة.

وتملك مجموعة تيزي وزو زيادة على المال والإعلام والمنظمات الجماهيرية والأحزاب المهيكلة والإدارة، ذراعاً أمنية لها يد طويلة يمثّلها جهاز المخابرات، حتّى بعد إلحاقه بالرئاسة سنة 2015، وستعود لتحالفها الظرفي مع كتلة البوتفليقيين التي يخدمها الجهاز الجديد، ومن جهة أخرى تملك المجموعة قيادات عسكرية رفيعة على مستوى قيادة الأركان والنواحي العسكرية، لاسيما قيادة القوات الجوية، ممثلة في اللواء عبدالقادر الوناس، وقيادة الناحية العسكرية الثانية تحت إمرة الجنرال سعيد باي، وكلاهما ينتميان أيديولوجيا إلى الاستئصاليين، مع احتمال وجود قيادات أخرى في مختلف القوات والنواحي لا تظهر ولاءاتها بشكل واضح إلى الآن، وعلاقات هذه المجموعة بالدولة الفرنسية وطيدة جدّاً، فهي علاقة المحيط بالمركز، والجندي بقائده، لا يتحرّك أفرادها إلاّ بتنسيق عال مع مديرية الأمن الفرنسي وأوامر الإيليزيه وتعليمات الكيدورسيه.

إنّه الكيان الموازي، والدولة العميقة الحقيقية التي لا يؤمن جانبها حتى في أشدّ لحظاتها ضعفاً، بل يمكن الجزم أنْ لو حدثت ثورة ونجحت لكانت هذه المجموعة هي من تقود الثورة المضادّة، ولا يستبعد لجوؤها إلى استعمال أساليب قذرة في الصراع الحالي، وما تلويح رئيس حركة الماك (فصل منطقة القبائل) فرحات مهنّي، المنتمي عقدياً إلى نفس المجموعة بإنشاء ميليشيا إرهابية ببعيد.

قد يلاحظ القارئ أنّنا تجاهلنا دور حزب جبهة التحرير الحاكم، ويتساءل عن سبب ذلك، الجواب أنّ حال الحزب من حال الجزائر كلها؛ حزب تتقاذفه التيارات الثلاث التي نتناولها في هذا المقال.

يتبع…

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
فيصل عثمان
كاتب جزائريي مختص بالعلوم السياسية
تحميل المزيد