كانت ليلة من ليالي الأحلام.. في هذا المكان ذي السقف المنخفض، جلسنا.. كانت الإسكندرية تبدو ليلتها عروساً في أبهى زينة، كما تكون عادةً في أواخر الشتاء، قبل أن تزدحم بالعابرين والمصطافين، خلال شهور الصيف.. لا يزور الإسكندرية في أواخر الشتاء إلا "أصحاب المزاج"، من يعرفونها وتعرفهم.. آخر الليل، الفجر يقترب، حيث لا صوت يُعكِّر جلستنا سوى خطوات العابرين النادرين في الخارج، وصراع القطط في سبيل أكل العيش..
حتى في هذه اللحظات التي يهدأ فيها صراع البشر من أجل لقمة العيش، ولو نسبياً، على الجهة الأخرى، يشتعل الصراع في العوالم الأخرى.. العوالم السفلية للمدينة بساكنيها من القطط والفئران، والبشر الذين يلعبون أدوار القطط والفئران، ويتحلون بسماتهم وأخلاقهم!
أذكر أنني كنتُ منهمكاً في حديث جانبي مع النادل العجوز، أستفسر منه عن شيء ما، عندما لاحظتُ أن صديقنا نظره مشدود في اتجاه معين لأكثر من دقيقتين.. صرفتُ النادل، وضربت على ذراع صديقي برفق، مازحاً؛ لأُخرجه من عالمه لعالمنا مرة أخرى.. على الرغم من أنه يكبرني بأكثر من 10 سنوات، فإن هذا لم يقف عائقاً في سبيل التفاهم والمحبة بيننا.. دون أن أسأل، وجدته يشير برأسه في اتجاه معين، وهو يهمس: حبي الأول هناك أهي! حبي الأول وخازوق عمري، والدرس الأهم في حياتي.
ثم بدأ يحكي لي حكاية طويلة، مُختصرها أن هذه هي حبه الأول، الذي تركه فجأة، كالعادة؛ ليتعافى من جراح هذه التجربة، خلال ثلاث سنوات بعدها، آذى فيها غيرها كثيراً، وآذى نفسه أكثر من أي أحد آخر.
لا أعتقد أنه من سبيل المصادفة أن تكون هكذا معظم قصص الحب الأول التي أصادفها، جميعها مُكللة بالفشل، على الرغم من ملحميتها واشتعال جذوتها في بداياتها.. للأمر هنا علاقة بطبيعة مجتمع يُنشئ أبناءه على ثقافة الخوف، وأجيال متعاقبة لديها مشكلة التعامل مع هوة شاسعة مخيفة بين "المرغوب" و"المسموح"، وشباب تجاوزوا الواحد والعشرين من عمرهم ولا يزالون مراهقين في حقيقة الأمر..
هل ترغب في حب أول يُبنى عليه بيت وزواج وأولاد وحياة؟ أم مجرد تجربة للتسلية؟ كرجل، هل أنت مستعد للزواج "من البنت اللي مشيت معاها"؟ كفتاة، تريدين الشاب الذي اختاره قلبك، وإن كان خاوي الجيوب، أم العريس الجاهز القادم من الإمارات؟ الحب والقصص الجميلة، أم الحياة المستقرة والزواج والإنجاب؟
في بلادنا، عادة ما يكون "الحب الأول" هو تجربة النضج الأولى، صدمة الحياة الأولى لك، بوابتك للخروج من أحلام المراهقة لقسوة الواقع، صفعة مفاجئة يجب أن تتلقاها؛ لتدرك أن واقعك لن يحقق لكَ أحلامك، بالشكل الذي تتخيله، بل عليك أن تتلقى الصفعات، غالباً، لتحقيق "بعض" أحلامك، والتنازل عن بعضها.. حبك الأول، بمقلبه المعتاد، وخازوقه المنتظر أو الذي قد جربته بالفعل، هو بوابتك لعالم الواقع، هنا ستخطو، تتجاوز البوّابة الفاصلة بين عالم الأوهام، وعالم الواقع، بكل ما فيه، حُلوّه ومُرّه.
قبل أن نغادر المكان، وجدتُ صديقي ينظر مرة أخرى، في الاتجاه إياه، ويقول متنهداً: "كبرنا والله!"، وعلى وجهه ابتسامة صافية بشكل لافت.
حالياً، وعندما أتذكر هذه الليلة، أجدني أدعو الله أن يهبني هذه الابتسامة الراضية، عندما أقع في موقف مشابه، في هذه اللحظة الصعبة التي أدرك فيها الحقيقة القاسية.. أنني تعلمت، وكبرت!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.