منذ قرابة العام وضعتْ جارتُنا طفلاً، لا يكفُّ عن البكاء يومياً منذ الصباح حتى عودة أمه من العمل عصراً. كنتُ أحترم كفاحَها هي وزوجها، فهي تعمل نهاراً وهو يعمل ليلاً؛ لكني صُدمت حينما علمت أن هذا ليس كفاحاً! فهي وزوجها شريكان في مصنع صغير للملابس الجاهزة، ولديهما أموال تمكِّنهما من العيش في رغدٍ، ولكن هي الرغبة في كسب المزيد، بحجة تأمين مستقبل أولادهم الستة!
وفي الحقيقة لا أعرف أي مستقبل سيكون لأسرة وربة البيت مشغولة عنهم؟!
فالحبل السري لا ينقطع بخروج الجنين من أحشاء الأم إلى الدنيا، بل يبقى دائماً بين الأم وأولادها حبلاً متيناً من الحب والاهتمام، لا ينقطع أبداً إلا لو قصَّته بمقص الإهمال، والإهمال ليس بالضرورة أن تغادر الأم البيتَ كلياً، فكم مِن أُم تعيش غريبة في أغلب البيوت بلا سفر، ودون أن تفصلها عن أسرتها حدود، هذه التي قرَّرت الانفصال بعواطفها عن بقية أفراد البيت، والانشغال بأمور أخرى، تحت أي مسمى يروق لها، وهو في الواقع فشل في القيام بواجبها نحو أبنائها، وتظل بين عائلتها كضيف شرف فقط، شغلها الشاغل في الحياة زيادة عدد طوابق البيت تأميناً لمستقبل الأولاد، بينما الأساس ينقصه أهم أعمدته؛ الحب!
ويحضرني الآن مشهد لأخوين تشاجَرَا على ميراث بينهما؛ عقار متهالك، فقام الأخ الأصغر بضرب زوجة أخيه الكبير، فقرَّر هذا الأخير وزوجته الثأر منه، وانهالوا عليه بالضرب حتى فقد وعيه، ولم يكتفِ الشقيق الأكبر، واستمرَّ في ضرب أخيه حتى منعته زوجته وسحبت منه عصاً غليظة، وكنتُ طيلة المشهد أتصور أن الأخ هو أول مَن ستأخذه الرأفة بشقيقه المسجّى على الأرض كجثة هامدة، ولكن لم يحدث!
أعتقد أن لهْثَ الجميع وراءَ تأمين مستقبل الأبناء أنساهم غرسَ الحبِّ فيهم، فصار الميراثُ هو ما يربط بين الإخوة، وقد يُهمل الابن والديه في الكِبَر بعدما حصل منهما على أملاكهما، أو العكس، يهتم طمعاً في نصيب أكبر من باقي إخوته.
والحياة تعجّ بقصص يندى لها الجبين، ليس لبشاعتها فحسب؛ بل لأن أطرافها من أُسرة واحدة. وهذا ليس وليدَ اليوم، فإذا تأمَّلت ستجد أنَّك تعرف أسرةً ما، إن لم تكن أسرتك أنت شخصياً، تقاطع أقارب لهم، وأحياناً أقارب من الدرجة الأولى، لسبب تافهٍ، ومع ذلك تمتد القطيعة لسنين طويلة.
وقصتا جارتنا والأخوين ليستا النموذجين الوحيدين، فهناك أُمّ على شبكات التواصل الاجتماعي، لا تكفُّ عن التقاط الصور لأسرتها، ولا أعرف ماذا تفيد كل تلك المنشورات، التي تُعلن فيها عن حبِّها لهم؛ لكن مع قليل من التركيز سيطرح سؤالٌ نفسه: متى تحدث أفعال الحب وأفراد الأسرة يقضون معظم أوقاتهم بين شبكات التواصل الاجتماعي؟! فتجد منشوراً بين شخصين في بيت واحد، فهل عَجزَا عن سير عدة خطوات لإخبار الآخر أنه يحبه، وتبادل أطراف الحديث معه؟!
لقد صار الاهتمامُ بتجميل صورتنا أمام الآخرين أهمَّ مِن الذين نُحبهم، وانصبَّ الاهتمامُ على رسم صورةٍ زائفة أمام الآخر نكايةً فيه، أو حتى خوفاً من شماتة!
ولم يقتصر الأمر على الأمهات الصغيرات؛ بل طال الكبيرات أيضاً، فأمست شبكات التواصل الاجتماعي هي الغلاف الأنيق لأسرة ممزقة من الداخل، لا أحدَ فيها يعرف عن الآخر شيئاً غير تحضير وجبات الغذاء، أو الذهاب والحضور من وإلى المدارس والجامعات أو العمل، والتقاط صور "حلوة"، حتى يرى الجميع أننا سعداء!
ولكن إذا كان الفيسبوك والإنستغرام وغيرهما أهم من أبنائكم، حسناً، فلا داعي للإنجاب، فالأسرة مسؤولية وليست تقليداً لعمّتك وخالتك وبنات العائلة. وبالطبع لا أقصد هنا مقاطعة التكنولوجيا بكل وسائلها؛ لكن الحرص على ألا تسرقنا، وعدم الانغماس فيها إلى حدٍّ يحرمنا ويحرم من نحبهم من وجودنا الحقيقي بقربهم.
وهذا سبب من عدة أسباب مزَّقت الألفة بيننا، وإن كنت أرى أسباباً أخرى، منها ما يحدث في ظلِّ موجة الغلاء التي تجتاح المجتمع، وجعلت البعضَ يرى في السفر إلى الخارج سبيلاً سيُساعد في تحسين الدخل ورفع مستوى المعيشة. وغالباً ما تدعم الزوجة تلك الفكرة حتى تحصل على ما حصلت عليه جارتها أو نساء عائلتها من مظاهر اجتماعية فارغة؛ ولكن الغربة كما توفر دخلاً تمتصُّ سنين العمر، وتأكل تلك الرابطة بين الأسر.
وقديماً قالوا: "فلان ذاق حلاوة الفلوس"، بمعنى أنه كلَّما توغَّل في طريق المال ابتعد عن القناعة، حتى ينسلَّ العمرُ ويكتشف أنه نسي أسرته، كما أسقطوه هم من حساباتهم، وأمسى غريباً، يأتي زائراً على فترات متباعدة بلا عاطفة، مجرد وجه قالوا عنه: أب، أخ، عم، خال… وقد يُسعدك ما يحمله معه من هدايا أكثر من سعادتك بحضوره هو شخصياً.
ولنرجع الأمر إلى ظروف اجتماعية طاحنة، وليقل كلُّ شخص مبرّره، ولكن ليس هناك عوض عن الحب، ويجب أن ندرك جميعاً أن تكوين أسرة ليس بالأمر الهين، وليس كل ما تحتاجه هو العطاء المادي فقط؛ بل العطاء المعنوي، فلا يمكن أن تنجب عدداً كبيراً من الأطفال ودخلك لا يوفر لهم حياةً كريمةً، فتضطر للسفر أو للعمل عدد ساعات أكبر، وتعتقد بذلك أنك تقدم تضحيةً عظيمةً، من خلال توفير المال على حساب العاطفة، التي تؤسِّس إنساناً سوياً، وهو الإرث الحقيقي الذي لا تبدده الأيام، وهو خير من ميراث مادي يخالطه الكره ويخلف القطيعة.
كما لا يعقل أن نعيش غرباء تحت سقف بيت واحد، وكل منا يكتشف الآخر على شبكات التواصل الاجتماعي!
ولنكن على يقين أنه لا يهم مَن يرانا تعساء أو سعداء، أغنياء أو فقراء، الأهم أن نكون سعداء ومترابطين بالفعل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.