نحن الآن في ذروة القرن الحادي والعشرين، حَكَمَ الإنسانُ البر والبحر، صَعِدَ هُناك بين الشمس والقمر، أطلق المسابير والمركبات إلى المجرات والكواكب المُجاورة، غاص في أدقّ أعماق الخلايا الحية لفكِّ شفرات الحياة.
ولكن من بين كُل العجائب التي اكتشفها العِلم عن الكون الذي نسكن فيه موضوع أثار فتنة وسِجالاً من الجدل، وسخطاً أكثر من "التطور"، هذا ربما لأنه لا تحمل المعلومات عن أي مجرة عظيمة أو نيوترين، مثل تلك المعاني الضمنية، ذات الطبيعة الشخصية، يمكن للتعلم عن التطور أن يُغيرنا على نحو عميق، فهو يُرينا موقعنا في كل أبهة الحياة الرائعة، إنه يوحّدنا مع كُل كائن حي على الأرض اليوم، ومع آلاف الكائنات التي قضت نحبها، وانقرضت في صمت في أعماق الطبيعة.
يُعطينا التطور الرواية الحقيقية عن أصولنا، بدلاً من تلك الأساطير التي أرّقتنا لآلاف السنين، يجد البعض هذا مُرعباً بشدة، ويرى البعض الآخر أن هذا مُثير على نحو لا يوصَف.
انتمى السيد داروين إلى أصحاب الفئة الثانية، وعبَّر عن جمال التطور في الفقرة الخِتامية لِكتابه (أصل الأنواع) عام 1859: "هناك عَظَمة في هذه الرواية للحياة، فبقدراتها المختلفة منفوخة في الأصل إلى أشكال قليلة أو شكل واحد، بينما هذا الكوكب يدور بناء على قانون الجاذبية الثابت من خلال بداية بسيطة، إلى هذا الحد طُورِّت وتطوَّرت أشكال لا نهائية ورائعة للغاية، ولكن هناك بدرجة أكبر سبب آخر للتعجب؛ إذ إن عملية التطور، الانتخاب الطبيعي الآلية التي قادت أول مُجرد جُزء ناسخ لنفسه إلى تنوع ملايين المُتحجرات والأشكال الحية هي آلية ذات بساطة وجمال مُذهلين".
نظرية داروين عن أن كل الأشكال الحية هي مُنتج للتطور، وأن تلك العملية قُيدت إلى حد بعيد بالانتخاب الطبيعي، دُعيت بأنها أعظم فكرة جاءت في ذهن أي امرئ، لكنها أكثر من كونها نظرية جيدة أو حتى بديعة، بل هي أيضاً صحيحة، رغم أن فكرة التطور ذاتها لم يكن داروين مُبتكرها، فإن الأدلة التي جمعها من رحلاته العِلمية لصالحها أقنعت معظم عُلماء الغرب ومفكريه من الكُتاب والمثقفين بأن الحياة قد تغيَّرت عبر الزمن.
هذا استغرق حوالي 10 سنوات فقط من نشر (عن أصل الأنواع) عام 1859، لكن لسنوات طويلة ظلَّ العُلماء والمفكرون الغربيون والمُتدينون مُشككين في تلك الأطروحة، وحدثت تلك الأزمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الأدلة على التطور غير واضحة، والجِينات كانت لا تزال مجهولة كل هذه الخِلافات تمت تسويتها بقدوم القرن العشرين، قرن العِلم، منذ ذلك الوقت أصبحت الأدلة الداعمة للنظرية تظهر واضحة كُل يوم، خصوصاً بظهور عِلم الجينات وكشف عُلماء الجينات والأحياء العديد من الأدلة التي لم يكن لداروين نفسه أن يتخيَّلها عن نظريته، ككيفية تمييز العلاقات التطورية بين الكائنات، تسلسلات الحمض النووي منزوع الأكسجين DNA.
فأولاً النظرية المُقدمة في (أصل الأنواع) قد ترسخت لدى العُلماء، واليوم لدى العُلماء يقين بالتطور بنفس القدر الذي لديهم في وجود الذرات والكائنات المجهرية كسبب للأمراض المُعدية.
لماذا إذاً نؤلف الكُتب التي تُقدم لنا الأدلة الداعمة للتطور؟ فمع ذلك لا أحد ألف كُتباً تشرح الأدلة الداعمة لوجود الذرات أو وجود الكائنات المجهرية، إذاً لماذا اختلف الموقف بالنسبة لنظرية صارت من أمد بعيد جزءاً من تيار العِلم؟
لا شيء، وكل شيء، صحيح أن التطور راسخ بقوة كحقيقة علمية (هو كذلك كما سنتعلم، أكثر من "مجرد نظرية" بمعنى فرض علمي)، ولا يحتاج علماء الأحياء إلى إقناع أكثر، لكن الأمور مختلفة خارج الدوائر العلمية، فبالنسبة إلى الكثيرين يزعج التطور إحساسهم بالنفس، إن كان التطور يقدم درساً، فيبدو أننا لسنا فقط مرتبطين بكل الكائنات، بل نحن -مثلهم أيضاً- منتج القوة التطورية العمياء وغير الشخصية، فإن كان البشر هم فقط واحداً من المنتجات الكثيرة للانتخاب الطبيعي، فربما نحن لسنا استثنائيين برغم كل شيء.
يمكن فهم لماذا هذا لا يسر تماماً الكثير من الناس الذين يعتقدون أننا جئنا إلى الوجود بطريقة مختلفة عن الأنواع الأخرى من الكائنات، كالغاية المميزة لهدف إلهي، فهل لوجودنا أي غاية أو معنى يميزنا عن الكائنات الأخرى؟
اعتقدَ البعض كذلك أن التطور يزيل الأخلاق، فإن كنا -برغم كل شيء- ببساطة حيوانات، فلماذا لا نتصرف كالحيوانات؟ ما الذي يبقينا أخلاقيين إن كنا لسنا أكثر من قرود ذوات أدمغة كبيرة؟ لا نظرية علمية أخرى تسبب هذا الإزعاج لعوام الناس.
ولكن في النهاية فـ"داروين مهم؛ لأن التطور مهم، والتطور مهم؛ لأن العِلم مهم، والعِلم مهم؛ لأنه القصة المتفوقة لدهرنا، قصة ملحمية عمَّن نحن؟ ومن أين أتينا؟ وإلى أين؟".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.