خطاب التحريض بين الصحراويين والموريتانيين.. إلى أين؟

تم النشر: 2018/07/25 الساعة 10:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/01 الساعة 12:08 بتوقيت غرينتش

منذ أيام قليلة كنت قد نشرت تدوينة/ مقالاً حول الحملة العنصرية المقيتة التي دشنها العديد من النشطاء الصحراويين والموريتانيين ضد بعضهم البعض، حذرت فيها من مغبة المضي قدماً في نشر خطاب الكراهية بين شعوب المنطقة، وشرحت فيها أوجه الوحدة والتلاحم التي تجمع شعوب المنطقة ومجتمعاتها، خاصة داخل مجال مجتمع البيظان، لكن يبدو أن من يقفون وراء حملة زرع بذور التفرقة لا يزالون مصرين على إثارة النعرات ونشر الضغائن وتحريكها بين الموريتانيين والصحراويين، وعلى قاعدة التحقيقات الجنائية أتساءل بدءاً من المستفيد يا ترى من هكذا حملة عنصرية مقيتة حتى نقف على المجرمين الحقيقيين الذي يحركونها؟ وما أهم الأدوات التي يوظفونها؟ وما السبيل لمواجهتها؟

طبعاً ما أعنيه بالمجرمين المعنيين بالترويج المتعمد لتلك الطروحات العنصرية المقيتة وذلك الخطاب الرخيص، والذين أحاول الوقف على هويتهم، ليسوا أولئك الذين يعبرون بتجرد عن قناعاتهم السياسية حول مختلف القضايا والمواضيع التي تعيشها المنطقة، وعلى رأسها النزاع الصحراوي، فالحق في إبداء الرأي حول القضايا السياسية مكفول تضمنه دساتير بلدان المنطقة وقوانينها، لكن ما نعترض عليه ونحاول كشفه وفضحه هو محاولة استغلال القضايا السياسية لشحنها بحمولة شعوبية عنصرية وتوظيفها بغرض زرع بذور التفرقة ونشر خطاب الكراهية.

وهو الأمر الذي لن يخدم موقف أي جهة سياسية كانت، لكنه وهنا مربط الفرس، قد يساهم في تشتيت الانتباه إزاء مظاهر الفشل والفساد المستشرية في العديد من الأنظمة السياسية، عن طريق البحث عن عدو خارجي مفترض بغرض تحويل الانتباه بعيداً عن الأزمات الداخلية التي تعيش على وقعها الدول والتنظيمات، عبر خلق عداوات وهمية في شكل أعداء خارجين، يتم استغلالها للتنفيس عن الضغائن والسخط والاحتقان الشعبي المتزايد، والمترتب على مظاهر الفشل المسجلة في مختلف مناحي الحكم والتسيير في العديد من الدول والتنظيمات السياسية.

الجديد في حملة الخطاب العنصري المتبادل في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة، هو انتشارها وانخراط العديد من الشخصيات العامة التي تحظى بقدر معتبر من الاحترام والتقدير في العالم الافتراضي، بما في ذلك بعض السياسيين الوازنين وحتى الإعلاميين الأكادميين المعروفين، بعد أن كانت مقتصرة في مراحلها السابقة على قلة قليلة من المدونين الذين يتخفى معظمهم وراء التسميات والصور المستعارة.

ما يعني أن جهة خفية كانت تقف وراءها في البدء قبل أن تنجح في توريط شخصيات محترمة محسوبة على العديد من الطروحات السياسية وتنتمي لمختلف بلدان وشعوب المنطقة، قبل أن تتوج بتصريح لوزير خارجية البوليساريو محمد سالم ولد السالك، أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه لم يكن موفقاً، فلا هو ساهم باعتباره مسؤولاً عن الجهاز الدبلوماسي للجبهة في تقريب وجهات النظر السياسية وخلق نقاش عقلاني مع الأطراف المعنية بتصريحاته، ولا هو خدم موقف الجهة التي يمثلها بتلك التصريحات.

لكنه أثار موجة من الاستنكار والاستنكار المضاد عبر اجترار أحداث تاريخية متجاوزة، ومحاولة إسقاطها على واقع سياسي راهن يختلف جملة وتفصيلاً عن السياقات التي أفرزت تلك المواقف والأحداث التاريخية المثارة، فضلاً عن تطاوله على رموز تاريخية في بلدان ومكونات اجتماعية معينة، فتحت المجال للعديدين المجال؛ لكي يتبادلوا السباب والشتائم والنيل من رموز كافة الأطراف.

ولتوضيح السياق التاريخي للمعلومات الواردة في تصريح القيادي البارز في الجبهة، فالأسماء المثارة فيه والمتمثلة بالخصوص في القيادي الموريتاني التاريخي حرمة ببانا، انضمت إلى حراك سياسي وعسكري يعتبر من أهم الحِراكات التاريخية التي شهدتها بلدان المنطقة.

لم يكن سوى "جيش التحرير" الذي أعلن عنه وأسس له عاهل المغرب محمد الخامس، وواجه من خلاله المستعمر الأوروبي في الصحراء الغربية وموريتانيا، وبغض النظر عن المواقف السياسية الكامنة ورؤاه والنتائج المختلفة المترتبة عنه على مستقبل تحرير بلدان المنطقة وتشكيل الواقع السياسي الذي ما زلنا نعيش على وقعه، فقد خصص له المغرب آنذاك ميزانيات معتبرة وجهداً سياسياً ودبلوماسياً، فضلاً عن اللوجيستيك وتوفير الملاذات الآمنة والتجنيد، فالتحقت به العناصر الصحراوية والموريتانية من مختلف أماكن تواجد مجتمع البيظان القابعة تحت نير الاستعمارين الإسباني والفرنسي.

ضمت نخبة مجتمع البيظان آنذاك، قبل أن تعلن مجموعة من قيادات حزب النهضة الموريتاني المناهضة للمستعمر، الانخراط فيه بعد أن حظيت بدعم المغرب الرسمي إبان تمركزها بالمناطق الحدودية في غرب مالي، وتنظيمها لهجومات عسكرية على العديد من المواقع الفرنسية ما عجل لاحقاً بانسحاب العناصر الفرنسية وتسريع وتيرة منح الاستقلال لدولة موريتانيا.

ومن اللافت أنه من بين تلك العناصر المنضوية تحت لواء جيش التحرير في تلك الفترة قيادات وعناصر صحراوية عملت تحت إمرة الأسماء المثارة في تصريح القيادي في الجبهة محمد سالم ولد السالك، بما في ذلك قيادات مؤسسة للجبهة نفسها، إلى جانب ذوي وآباء معظم القيادات فيها، خاصة تلك العناصر المنتمية إلى مدينة طانطان التي كانت في فترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بمثابة عاصمة للمجال البيظاني بفضل تمركز العناصر الملتحقة بجيش التحرير فيها، وهي العناصر القادمة من مختلف أماكن تواجد المجتمع البيظاني كما سبقت الإشارة.

صفحة تاريخية ناصعة توحدت خلالها شعوب المنطقة وسجلت خلالها معارك، وارتقى فيها شهداء من مختلف المكونات الاجتماعية، وامتزجت فيها دماء المجاهدين من مختلف المناطق والقبائل، قبل أن تدخل تلك التجربة في متاهات السياسة ويتم استغلالها وتحوير أهدافها، حيث أدت صراعات القادة الذين ينتمون لتوجهات فكرية وسياسية مختلفة ومتعارضة في تفكيك تلك التجربة، فما كان من ملك المغرب الحسن الثاني إلا أن استغل بدهائه تلك الأحداث؛ فعرض ضم العديد من تلك العناصر إلى القوات المسلحة الملكية، بعد أن أبرم اتفاقيات مع إسبانيا تسلم بموجبها السيطرة على العديد من المناطق.

أعود لتلك الأحداث التاريخية ليس بهدف صب الزيت على النار عبر إعادة اجترارها، ولكن لاستقرائها من زاوية أخرى غير تلك التي يحاول البعض النظر إليها من خلالها، فما ينبغي الآن في اعتقادي هو إعادة قراءة التاريخ المعاصر بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة، ومحاولة استقراء الصفحات المضيئة فيه واستغلالها بغرض تحريك مشاعر الوحدة والتعاضد بين شعوب المنطقة، لا بغرض تفرقتها وزرع بذور الفتنة والتفرقة بينها، فما يجمع بين بلدان وشعوب ومجتمعات المنطقة أكثر بكثير من مما يفرقها، رغم تركيز البعض على أسباب التفرقة والعداء، ومحاولة النفخ فيها باستدعاء مواطن الخلاف واجترار الأحداث التاريخية لتحقيق تلك الأهداف المقيتة.

تحديات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى أمنية وثقافية تواجه شعوب المنطقة، وتفرض توحيد الجهود وتنسيقها، فالاقتصاديات متعثرة، والتعاون المشترك بين بلدان المنطقة متذبذب ومتراجع، والأخطار المحدقة بالمنطقة تطل من كل حدب وصوب، بدءاً بالعصابات العابرة للبلدان وليس انتهاء عند الإرهاب والتهريب والأطماع السياسية الأجنبية، وكذلك الثقافات المحلية تواجه تحديات مختلفة ليس أقلها التيه والاستلاب الثقافي الذي تواجهه الأجيال الصاعدة، وبالأخص حفظ وصيانة ثقافة وتاريخ مشترك بين شعوب المنطقة مهدد بالضياع.

بالإضافة إلى الظواهر الاجتماعية المقلقة المتفاقمة والمتشابهة في كافة مجتمعات المنطقة، بدءاً من الفقر والهشاشة والبطالة… زيادة على مؤشرات السخط والاحتقان الاجتماعي المتزايدة، فضلاً عن الواقع السياسي المتعثر والمتمثل في تخلف الأنظمة السياسية وتراجعها في التصنيفات الدولية، وعجزها عن تحقيق التنمية و الاستقرار السياسي والديمقراطية والحكم الرشيد.

واقع يفرض على النخب المحلية، خاصة النشطاء والكتاب والمدونين وحتى الإعلاميين والمسؤولين نسج خيوط التواصل بين شعوب ومجتمعات المنطقة، واستغلال وسائل الاتصال وفضاءات التواصل الاجتماعي بغرض التأسيس لحوار شعبي بينها يتجاوز الحوار الرسمي القاصر، يستحضر نقاط الاشتراك والوحدة بينها، ويوظف التاريخ المشترك الناصع، ويواجه التحديات الحقيقية المحدقة بشعوب المنطقة، وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية التي عمرت أكثر من اللازم، أسوة ببقية الشعوب المتحضرة عبر العالم، بعيداً عن العواطف والانجرار وراء دعوات الكراهية والعنصرية المقيتة التي لن تفيد سوى في تعميق الأزمات القائمة وترسيخ الواقع المتخلف والمرفوض.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد سالم عبد الفتاح
ناشط حقوقي
باحث سياسي وكاتب رأي
تحميل المزيد