تعلمتُ أن أقرأ في سنّ الرابعة، كان العلاج بالقراءة ـ Reading Therapy ـ هو الوسيلة التي استخدمتها العائلة معي وبعدها تركوني في مكتبةِ أبي أصولُ وأجولُ.. وهكذا أُصبت بنهم القراءة.
كبرتُ.. وكبُر مجتمع القراء حولي، وفي مرة سألتني صديقتي: "بما أن كثيراً من معارفك مثقفات، فلمَ لا تتزوج المثقفات؟". أجبتها: "رُبما لغياب المثقفين". وبعدها أعادت الحديث مازحةً: "لكن حذار أن تكوني مثل مي زيادة"، باغتها بضحكة: "وأين العقاد؟ أو طه حسين؟ ويا حبذا جبران"، لم تكن هي تمزح، كانت كعادة أي مصرية ـ ولو كانت تملك من الوعي ما يكفي ـ تتحدثُ بجديّة مستترة خوفاً من أمور الزواج والارتباط.
خصوصاً أن المرأة القارئة أو المثقفة تظهر غالباً في الأفلام والمسلسلات العربية تلبس نظارة مستديرة سميكة، تتسفسط طوال الوقت، وتعترض دوماً بنقاشات بيزنطية لا تنتهي.. تشكو أمُها رفضها الدائم لـ"العرسان" أو غيابهم أصلاً، ويغار زوجها ـ إن وُجد ـ من سقراط!
وفي هذا ظُلمٌ بيّن.. دعني أعرضه لك: اذهب إلى أي جماعة وسيطة تثقيفية وابدأ بعدِّ الإناث والذكور، ستجد بالتقريب ثلثي المكان نسوة والثلث الباقي رجالاً.. لا أعرف السبب الحقيقي وراء ذلك، لكنّي أعرف النتيجة الحتمية: وجود عدد كافٍ من المُثقفات الواعيات، وقلّة من الذكور الواعيين مع دوام وجود الفكر الشرقي الذكوري وأن الرجل هو الأكثر ذكاءً والأكثر حكمةً وفهماً لشؤون الدنيا من المرأة.
وبارتفاع نسبة التميز والثقافة لدى هذه المرأة تتعمق نظرتها في فهم الحب واعتباره فناً رفيعاً يتطلب سعياً لكمال ذاتي وتشبعاً للقيم السامية والتربية كدور إنساني مُقدس فيجدر بها إذاً أن تهيئ قلبها وتُنمّي ذاتها وتعتقد طوال ذلك أن الرجل يتطلب أن يكون كالرافعي حين يقول: "إن تزوجتُ يوماً فما أبالي جمالاً ولا قبحاً.. إنما أريد (إنسانية كاملة) مني، ومنها، ومن أولادنا.. والمرأة في كلِّ امرأة، ولكن ليس (العقل) في كلِّ امرأة!".
ولأنها لديها العقل فهي تعتقد في مفاهيم الرجال الخاصة عن الذات والرجولة والاكتفاء والاستقلال والقيادة وتحقيق النتائج، والتي لخّصها القرآن في معنى "القوامة" والتي تجعله يميل للقوة والكفاءة والفاعلية والإنجاز وينفر من أي سلوك لا يحترم هذه الصفات، فإذا أشعرته المرأة بعدم قدرته على القوامة ومواجهة مصاعب الحياة ـ بأي وسيلة ـ فقد فقَد سحره في المرأة ومداعبتها لكوامن القيادة له!
وهي لا تتمنّى إلا اكتمال معنى القوامة باكتمال جوانب التوافق، فإن لم يكن؟ فلا زواج. أما هو فينسى تدعيم قوامته بثقافة أو فِكر أو دوام سعي ويرى أنه ليس من واجبه أن يفعل هذا ليُرضي امرأة مثلاً، فهو يملِك ما يؤهله..
وينسى أنّ أهم ما يؤهله هو شعورها بالأمان معه فكيف تشعر بالأمان في قدرته على حلّ مُشكلاتِ العائلة وهو لا يملكُ مهارةً كهذه؟ كيف يتحمل مسؤولية وكفالة الأسرة وهو لا يهتم أن يكون عائلاً جيداً؟ كيف تُحاوره وهو لا يفهم عنها حين تستمر ـ في رأيه ـ في نقاشاتها البيزنطية والتي يراها هو سخيفة ومبتذلة؟ فيرفض الزواج أو لا يميل هو للزواج بالمرأة المثقفة، ولا تميل هي أيضاً له.
وترسم لنا الفنانة التشكيلية منى أسامة (معيدة بكلية الفنون الجميلة) صورة المرأة المثقفة في عيون الرجل العربي، فتقول: "هذه الصورة القاتمة ترجع في الغالب إلى الرجل والمرأة معاً، دون انحياز لبنات جنسي، فالمرأة المثقفة يعيبها أحياناً انشغالها بذاتها وطموحها وتثقيف نفسها، لهذا يهرب منها الرجال.
وأيضاً هذه المرأة قد تكون في نظر الرجال ثقيلة الدم لأنها لا تتحدث في القضايا السهلة والشعبية، لكنها تتحدث في قضايا السياسة والمجتمع، أو بلسان الرأي العام، في حين الرجل العربي مازال مهما بلغ من علم وثقافة، يتوق إلى أنثى تنسيه تعب العمل ومشاق الحياة، وتنسيه مشاكله أو حسب التعبير الدارج "تنسيه نفسه"، لهذا يهرب من المرأة المثقفة التي لا تحقق له هذا، لكنه أيضاً لا يدرك كونها رغم كل الضجّة التي تفتعلها ثقافتها ووعيها وعقلها، لكنها ببلاغة البيان "قارورة" خُلقت أنثى بطبعها، بدوام الحاجة لمن يتفهمها أكثر من حاجتها لمن يُفهمها، وبحاجة لمن يُشعرها أيضاً بالحب والدعم وعذوبة الحوار وكل ما يلخصه القرآن في رباط مقدس اسمه "مودة ورحمة".
وعلى هذا.. يرتفع عدد المُثقفات، ويرتفع معه سقف طموحهن في شريك الحياة، ويقل عدد المتوافقين معهن مع نقص عدد المتفهمين لهن أيضاً.. فتكون نموذجاً يُشبه مي زيادة التي على كثرة محبيها لم تتزوج، فالكُل يريد المثقفة كفكر، ولا يريدها كزوجة. وهي تُريد الفِكر.. وتريد أيضاً مُثقفاً زوجاً.. وتريد أن تكون زوجة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.