أقوى أعمدة الفساد في الدولة المصرية.. ما لا تعرفه عن الإدارات المحلية في مصر

عدد القراءات
649
عربي بوست
تم النشر: 2018/07/24 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/09 الساعة 12:02 بتوقيت غرينتش

قليلة تلك المساحات التي يجتمع عليها المصريون في نظرتهم للأشياء وآرائهم عندما تتطابق في مسألة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحياتهم اليومية ومستقبلهم.

ومن هذا المنطلق تطابقت نظرتي لإدارات الحكم المحلي مع المجتمع كونها أحد أهم وأقوى أعمدة الفساد في الدولة المصرية، هذا بخلاف عمق النظرة نسبياً كوني من أسرة لها تاريخ في النضال داخل أروقة الحكم المحلي مكنتني من التعرف أكثر على خبايا هذه البؤرة.

اتفقت مع جموع المصريين على أن إدارات الحكم المحلي تنقسم إلى قسمين من حيث العاملين، قسم الأغلبية الفاسدة الفاعلة وقسم الأقلية صاحبة الضمير وهي سلبية!

استمرت هذه النظرة حتى بعد أن عملت محققاً في إحدى هذه الإدارات وشعرت بعدم الارتياح والضيق لوضع أصبحت فيه جزءاً من شريحة أقلية دائماً ما كنت أحمّلها المسؤولية واتهمها بالسلبية!

أثناء تحقيقي في واقعة رشوة -وكما جرت العادة أوجه الأسئلة بوجه عابس ونظرات حادة- استوقفتني جملة خرجت من قلب الماثل أمامي قبل أن ينطقها لسانه وتظهر علامات الألم على عينه ووجهه قائلاً: "يا أستاذ حسين أنا سواق ومبنزلش ألمّ فلوس من الناس وكل اللي بعمله إني بنزل مع أي حملة أو الفنيين بمأمورية شغل وهما اللي بيلموا ومبطلبش منهم هما اللي بيكرموني وباخد علشان أعرف أعيش وأعيّش ولادي، وحضرتك عارف أنا بقبض قد إيه وبيعملوا إيه في الدنيا دي، إنما مباخدش رشوة"!

انتهيت من التحقيقات في هذه الواقعة وأخذت الأمور مسارها القانوني نحو عقاب مناسب، كل حسب دوره ومشاركته، ولكن داخلي تعلق بكلمات الرجل فقررت أن أتعقب روايته مع كل العاملين المنتمين لشريحة الأغلبية الفاسدة داخل إدارات الحكم المحلي.

وضعت خطة ومحاور وأسئلة خارج إطار عملي والتحقيقات الرسمية، وتحت بند الزمالة والعلاقات الإنسانية وأعطيت نفسي فرصة زمنية مناسبة لأهمية النتيجة المرجوة والإجابة عن سؤال محوري، هل فعلاً التقسيم يقتصر فقط على معسكر الفساد ومعسكر الضمير أم أن هناك تقسيمات أخرى؟ فالكل يتذرع بضيق الحال وضعف المرتبات.

اقتربت منهم وجمعتنا جلسات الحديث والدردشة واحتساء الشاي وأجاب الجميع عن كل تفصيلة وما تفرع من التفصيلات أثناء الأحاديث واستوفيت بما يفيض من معلومات وجوانب كانت خفية.

اتضح أن شريحة الأغلبية الفاسدة تتكون من عدة شرائح ومستويات القاعدة العامة فيها لا تنتمي لهذه الشريحة وإدراجهم لا يمكن الإجماع عليه ومساواتهم بباقي أركان الشريحة.

الشريحة الأولى: شريحة القيادة العليا من المحافظين ونوابهم والسكرتير العام، وتلك الشريحة تصنع السياسات وترعاها وحجم الاستفادة من الفساد كفيل بثراء فاحش يتمتع به جيل الأحفاد وأبناء الأحفاد.

الشريحة الثانية: رؤساء المدن والأحياء ونوابهم، ويمثلون القيادة المتوسطة التي تساعد القيادة العليا على تنفيذ الخطط والسياسات وأيضاً حجم النفع العائد عليهم مرتفع.

الشريحة الثالثة: رؤساء الوحدات ومديرو الإدارات ذات الصلة بالخدمات الهامة للمواطنين مثل الإدارات الهندسية والإشغالات والإعلانات والحملة والأملاك، حجم الاستفادة من الفساد لا يساوي الشرائح الأعلى ولكنه أيضاً مرتفع.

الشريحة الرابعة: الموظفون والعمال داخل الإدارات التي تقدم خدمات هامة للمواطنين، ويكون حجم الاستفادة من الفساد بما يحقق لهم حياة خالية من أية مشاكل مادية من الممكن أن تواجه أسرهم ويدخرون أيضاً.

الشريحة الخامسة: وهي الأغلبية التي تتكون من الموظفين والعمال والسائقين سواء من كان على قوة إدارة تقدم خدمات هامة أو خارجه، يوجد رابط في الأعمال بين الإدارات التابعين لها أو لا، ويستهدف هؤلاء فقط سد العجز الشهري بين مرتباتهم وبنود إنفاقهم الأسرية. فلو أن عاملاً أو موظفاً يتقاضى مرتب ٦٤٦،٥ جنيه (شامل حوافز وإضافي وبدلات)، وينفق شهرياً هو وأسرته ٢٠٠٠ جنيه، يستكمل المبلغ المتبقي من خلال اهتمامه بمديري وموظفي الإدارات التي تقدم خدمات هامة للمواطنين كما هو حال السائق المذكور عاليه.

وكذلك عامل البوفيه والنظافة وغيره من أصحاب الأعمال داخل مقرات الحكم المحلي، وكذلك موظفو الإدارات التي تعتبر جزءاً من سلسلة إجراءات تقديم الخدمات الهامة وهؤلاء إسهام مباشر في تقديم الخدمات بمقابل.

أما من حيث الأهداف فتنقسم تلك الشريحة إلى قسم يهدف لجمع ثروة طائلة، وقسم يهدف للحصول على ما يؤمن له ولأسرته مستوى جيداً ويدخر، وقسم أخير لا يرجو إلا توفير بند إنفاق شهري يضمن له الحد الأدنى للحياة، وهذا القسم الذي يمثل أغلبية في شريحة الفساد يمكن استيعابه وسينتقل ذاتياً وبنفسه إلى قسم شريحة الضمير إذا تم توفير بند إنفاقهم الشهري.

كما اتسعت الفائدة وتكشفت لديّ تقسيمات أخرى للإدارات والقطاعات التي تساعد بشكل كبير في التعرف على حقيقة وقوة ركائز الفساد داخل ممالك الفساد التي يملؤها غلابة.

عشرات المواقف التي عجزت فيها عن توجيه عتاب ولوم واتهام ورفض لتصرفات الباحثين عن سد جوع أبنائهم، وإن تضامنت جوارحي معهم إلا أنني لم أبرر لهم فعلتهم وتركت ما بداخلي حبيساً وحاولت أن أكون رحيماً معهم حتى في عقابهم شديداً مع الباحثين عن ثراء فاحش وحياة رغد ونعيم سيكتوي به من جمعه!

منظومة ترسخت وقواعد حكمت لم يكن لملايين المصريين يد في وضعها لكنهم وجدوا أنفسهم جزءاً منها يحاصرهم الفساد والعجز وقلة الحيلة في وطن لا قيمة للإنسان فيه ولا حق ولا ثمن!

فهل سيكون مواجهة الفساد بهدم الدولة وتسريح كل العاملين كما يتطلع قطاع كبير من منظري الإسلام السياسي؟ أم بتسريح الملايين منهم استجابة لشروط صندوق النقد الدولي للموافقة على القروض التي تطلبها الحكومة المصرية؟

فلعل الصورة الآن تكون قد اكتملت واتضحت، وليأخذ كل منا موقفه دون جور أو فجور تساهل أو تخاذل.

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حسين صالح عمار
محامٍ وباحث قانوني
حسين صالح عمار محامٍ وباحث قانوني سابق بوزارة التنمية المحلية، وباحث حقوقي ومساعد باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة أوكسفورد، وعضو مجلس إدارة مستشفى كرداسة الحكومي وعضو فريق تنسق برنامج مساعدة اللاجئين (صوي) بتركيا
تحميل المزيد