تقتل الثلوج مئات النساء الحوامل كل سنة في أماكن صعبة التضاريس، ليس بسبب الانهيارات الثلجية بل بسبب وعورة الطرق المؤدية إلى المدينة البعيدة حيث تتواجد المستشفيات التي تحتضن الحوامل في حالة تعقُّد عملية الولادة. لا تصلنا أخبار الكثير من هؤلاء النسوة نظراً لأن منابر الإعلام لا تطأ هذه الأراضي الوعرة التي نسيها الزمان، لكنني حاولت سرد ما حكته لي سيدة مسنة عن وفاة قريبة لها أثناء المخاض تاركة رضيعها وأطفالاً آخرين لن يتمكنوا أبداً من نسيان من أخرجتهم من رحمها إلى الحياة.
كانت تحمل حزمة حطب فوق رأسها وتصعد بعناء نحو بيتها المبني من حجارة مضى عليها على الأقل قرن من الزمان، رُتبت هناك على الأرجح عندما هربت القبيلة من المستعمر واستوطنت الجبل لتحتمي بفجه الوعر ومسالكه المبهمة. كانت تضع يداً على الحزمة لتمنعها من السقوط، فتظهر من بعيد وكأنها شجرة أطلسية ضاق بها الفضاء فاجتثت نفسها من التربة وشدت الرحال إلى المجهول، كانت ترد على تحيات النساء اللواتي يظهرن على حين غفلة، يبرزن من أجمة تارة ومن فج عميق عميق تارة أخرى، محملات بالحطب والكلأ أو آنية فخار كبيرة ملأنها من نبع الماء العذب الوحيد الذي يروي القرية بأكملها.
كل ما في المكان يدل على استيطان فصل الخريف للأطلس؛ أوراق صفراء متساقطة هنا وهناك، أشجار يابسة، سناجب تجري بخفة وحذر تحمل حبة جوز، أسراب طيورتتأهب للرحيل والهجرة إلى الجنوب تاركة المجال للبرد والثلوج كي تستوطن مكانها إلى أجل مسمى.
توقفت لبرهة كي تستريح من عناء الطريق الوعرة فظهرت "يزة" صديقة طفولتها وزوجة قريبها، سألت عن حال الأطفال والزوج والرضيع القادم الذي لم يتبق على وصوله إلا أشهر معدودة، كان حديثهما بالأمازيغية ذا شجون يمتزج بالمكان فيزيد من جماليته. أخبرت يزة أن توقيت الحمل كان خطأ لأنها تفضل أن تنجب في الصيف تفادياً لأي خطر في فصل الشتاء، لتجيبها يزة أن الأعمار بيد الله وأن كل شيء سيكون على ما يرام.
وضعت يدها الثانية على بطنها الناتئ من الكندورة الخشنة التي كانت ترتدي وواصلت السير لتضع الحزمة الثقيلة لوحدها في بهو المنزل وتباشر طبخ العشاء. وضعت شعيراً مهروساً في قدر أسود من شدة الدخان وأضافت ماء وزيت زيتون وقليلاً من الملح والزعتر وإكليل الجبل وأشعلت النار.
مرت ثلاثة أشهر تجري كالريح، كررت خلالها نفس السيناريو كل يوم ليباغتها المخاض فجأة قبل أن تضع الخضر في القدر لتحضر العشاء في آخر يوم من حملها. نادت ابنتها ذات السبع سنين لتنادي بدورها "يزة" والأب وباقي نساء القرية ليساعدنها على الوضع.
انطلقت الطفلة الصغيرة كالطود تشق طريقها وسط الثلوج، كانت باردة اليدين، ترتدي نعلاً بلاستيكياً، محمرة الوجنتين، ظهرت عليهما شقوق رفيعة من شدة البرد. عرجت على أبيها المجتمع مع رجال القرية حول سجائر ينفثون فيها خيباتهم المتراكمة لتخبره هامسة في أذنه أن أمها على وشك الولادة، أجابها أنه قادم لتكمل طريقها نحو يزة وبقية النساء.
قدمت النسوة على عجل متأهبات للمساعدة، وجدن النفساء تصرخ من وطأة المخاض. أزاحت سيدة قدر الطعام من على النار لتضع إبريقاً فيه ماء. كانت النفساء تعض يدها خجلاً كي لا تتعالى صرخاتها ويسمعها رجال القرية. امتد المخاض الليل بطوله وتعسرت عملية الولادة رغم قدوم "فاطنة" السيدة المسنة التي أنجبت على يدها كل نساء القرية تقريباً. أخبرتهم "فاطنة" أن الرضيع "فارسي"، أي أنه مقلوب في بطن أمه (وكأنه يجلس القرفصاء) وأن تلك الحالة مستعصية شيئاً ما وأنها شبه نادرة.
ذهب الزوج عند شيخ القبيلة يطلب المساعدة ونقل السيدة إلى مستشفى المدينة ليخبره الشيخ أن جميع الطرق معطلة بسبب الثلوج، وأن المواد الغذائية لم تجد سبيلاً إلى القرية منذ أكثر من أسبوع. عاد الرجل بخفي حنين ينتظر الخلاص.
واصلت النفساء الصبر وواصل النزيف تغطية الملاءة الصوفية التي كانت تفترشها. أذن المؤذن لصلاة الفجر ولم تلد بعد. فقدت الوعي بعد ثلاث عشرة ساعة من المخاض العسير، لتستيقظ بعد ساعة وتنجب مولودها والدموع تحرق وجنتيها بعدما أهلكها الألم لتغيب عن الوعي، للأبد هذه المرة. تعالى نحيب النسوة، أشعل الزوج سيجارة وقدم الأطفال يلقون آخر نظرة على أمهم الغارقة في دمائها قبل أن تغسل وتوارى الثرى.
مرت سنة وتزوج الأب، ثم كبر الصبي الذي ولد تلك الليلة. كان بعض سكان القرية يتطيرون من رؤيته لأنه في نظرهم هو من قتل والدته، في حين كان البعض الآخر يتهمون الشيخ الذي امتنع عن توصيل النفساء إلى مستشفى المدينة المجاورة تلك الليلة، أما يزة فكانت تحضنه في كل مرة تراه فيها يلعب في الثلج رفقة أقرانه، وتخبره في قرارة نفسها "أمك قتلها الثلج يا ولدي، قتلها الثلج".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.