كيف أجهضت أميركا حلم تأسيس قوة عربية موحدة بعد حرب العراق؟

عدد القراءات
621
عربي بوست
تم النشر: 2018/07/23 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/24 الساعة 12:04 بتوقيت غرينتش

كانت هناك مناطق في العالم تمتلك خصوصيات جغرافية وتاريخية، تجعل احتمال تحولها إلى قوة عظمى، إن هي امتلكت الوسائل شيئاً محتوماً، بالإضافة إلى أنَّ توجهاتها كانت تنافي مصالح القوى القائمة. لذلك وجب على هذه الأخيرة أن تتدخل بسرعة لإيقاف نموها، قبل أن تصل إلى مرحلة يستعصي فيها ذلك، وهذا التدخل السريع كان لا بد أن يكون عسكرياً.

ونظراً لأنك إذا أردتَ أن  تقضي على جسد بأسرع وقت ممكن، فعليك استهداف الجزء الحيوي فيه، الجزء الذي يبقيه حياً. وبالتالي فاستهداف هذا الجزء يقتله مباشرة، وهذا الجزء ليس الكبد، ولا الأمعاء، ولا الأطراف؛ بل هو القلب والدماغ، فقد استهدفت تلك القوى قلب ودماغ هذه المنطقة في العالم، عن المنطقة العربية أتحدث، وعن العراق ومصر كونهما الدماغ والقلب.

هكذا، وإثر تفعيل مشروع العولمة في أقوى تجلياته من خلال الثورة التكنولوجية، تدخلت أميركا في العراق واغتالته، ثم تركت للعولمة أن تأخذ وقتها، لتقوم بباقي المهمة في القضاء على كلِّ معالم الهوية العربية بشكل تدريجي. تدخَّلت أميركا في العراق، واغتالته بدعوى أكذوبة حيازته أسلحة دمار شامل.

صحيح أن صدام حسين كان ديكتاتوراً، لكن من يمكن أن يصدِّق أن من بين أهداف القوى العظمى في العالم ضمان العدل والعيش الكريم للإنسان؟ أليس من الخرق والحمق مناقشة أو تصديق كون هدف أميركا يوم غزت العراق هو تخليصه من نظام ديكتاتوري وإنقاذ العالم من شروره؟

اغتالت أميركا العراق، وكان من بين أهم أهدافها في ذلك القضاء على هوية الجسد العربي عن طريق استهداف الحيوي فيه، قبل أن تدع للعولمة أن تقضي على كل احتمالات أن يُبعث من جديد. طبعاً، وحتى لا يُفهم أننا نلخص كلَّ شيء في غاية استهداف الوعي، علينا أن نذكر أنَّ للغزو الأميركي للعراق حسب فهمنا بُعدان:

الأول: هو سيطرة أميركا على أراضٍ في قلب المنطقة العربية، تنزل فيها قوتها العسكرية، استعداداً لأي صدام مع أعدائها (وأولهم إيران)، حين يتطلَّب الأمر ذلك. وهو ما تكشفه بشكل جلي مضاعفة عدد القواعد العسكرية الأميركية في العراق، وتواجد آلاف الجنود الأميركيين وتدريبهم على أعلى مستوى، وتزويدهم بمختلف أنواع الأسلحة. إنَّ الأرض العراقية هي مسمار جحا، فأميركا وإن توهَّمنا أنها قوة قائمة في قارة تفصلنا عنها محيطات، لكنها منذ أكثر من عقد جارتنا بشكلٍ فعلي.

والهدف الثاني: هو موضوع مقالنا، إزاحة كيان مزعج، كان يحاول بناء وجود له حظوظ كبيرة في التمدد، ويخالف مصالح القوى العظمى في العالم.

وما الاثنان سوى وسيلتين لغاية وحيدة: السيادة. لماذا كانت المنطقة العربية من أقوى المنافسين المحتملين للسيادة؟ وفيما كانت توجهاتها تتنافى مع مصالح تلك القوى؟ تمثلت قوة المنطقة العربية دائماً في أنها على شَساعتها كانت لها هوية موحدة، هوية مرتبطة بالثقافة المشتركة المبنية أساساً على الدين السائد في هذه البلدان وهو الإسلام، ثمّ التاريخ المشترك، والخصوصيات الجغرافية المتقاربة، بالإضافة إلى اللغة العربية الفصحى التي توحد هذه البلدان، اللغة التي هي وسيلة الفكر الأولى للإنوجاد. هذا من جهة الهوية. ثمّ يأتي عامل آخر هو شساعة المنطقة العربية، وثراؤها من الناحية الطبيعية. هذه المقومات إذا أضيفت إليها وسائل السيادة والانتشار الحديثة كانت دون شك لتصير القوة العظمى الأولى في العالم، لذلك كان لزاماً تسخير كلِّ الوسائل لتدميرها، وهو ما تمَّ منه جزءٌ كبير. ولا يزال يتمّ إلى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه السطور.

لماذا كان العراق دماغ وقلب المنطقة العربية؟ لماذا كان أمله بناء الهوية العربية، والمنافسة ضمن القوى العالمية بدل الخضوع لها؟ أمرُّ على عجالة شديدة على السياقات التاريخية المرتبطة بالعراق خلال حكم صدام تحديداً، بهدف بسط صورة واضحة لما حدث، وكيف، ولِمَ تمّ تخريب هذا البلد.

تحدّ العراق ستّ دول: إيران، الكويت، السعودية، الأردن، سوريا تركيا. بعد استقلال العراق عن الانتداب البريطاني قبل قرن، وبعد الإطاحة بالملكية وإعلان العراق كجمهورية، حدثت عدة انقلابات، تعاقب إثرها على السلطة عدة قيادات خلال أكثر من 30 سنة، قبل أن يستقرَّ الحكم بين يدي حزب البعث.

عرفت هذه الفترة من بداية الحكم البعثي ازدهاراً اقتصادياً كبيراً. بعد هذا بقليل بدأ الصدام العسكري بين العراق وإيران، والذي سبقته صدامات دبلوماسية لسنوات. كان هناك نزاع حدودي بين الدولتين أجَّجه دعم إيران للحركات الكردية المسلحة بالعراق، التي زاد نشاطها إبان بدء الصِّدام العسكري على الحدود.

قامت بعد هذا ثورة إيرانية، كان العراق يخاف أن تلهم الأغلبية الشيعية العراقية لتثور هي الأخرى، فكان شديداً في قمعها. الحكم البعثي بالعراق كان حكماً ديكتاتورياً، وكان قمعه للحركات الاحتجاجية شديداً. قصفت إيران إثر هذه الثورة البلدات الحدودية للعراق، فاعتبر الأخير أن هذا إعلان للحرب، استغل العراق الفوضى التي تلت الثورة لغزو إيران دون أي سابق إنذار رسمي، ظناً منه أنها ستكون ضعيفة في تلك المرحلة.

دامت الحرب ثماني سنوات، وكانت حرباً دموية، خرجت منها كلتا الدولتين بخسائر بشرية ومادية جسيمة، وانتهت إلى طريق مسدود. والجدير بالذكر هنا أن أميركا دعمت العراق مادياً خلال هذه الحرب، ودعمته برفضها التعليق حين ظهرت دعوات لفرض عقوبات على العراق حيال تجاوزاته ضد إيران في هذه الحرب. بعد الحرب وجد العراق نفسه مُثقلاً بديون بملايين الدولارات، حيث كان يعتمد عليها لتمويل الحرب بعد تدهور اقتصاده.

يقول التاريخ أن العراق ازدهر اقتصادياً بشكل كبير مع بدء الحكم البعثي (حزب صدام)، لكنه عاد وانتكس وكسد إثر الحرب العراقية الإيرانية. لم يتمكن العراق من تسديد ديونه، وتزامن هذا مع رفع الكويت بشكلٍ متعمَّد من صادراته النفطية، مما أدى إلى انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، وهو ما أضرَّ أكثرَ بالاقتصاد العراقي، باعتباره من أكبر مصدّري النفط في العالم، إلى جانب إيران ودول الخليج. هدَّد صدام الكويت بالغزو إن هي لم تخفض إنتاجها النفطي، لم تفض المفاوضات بينهما إلى شيء، فحدث الغزو العراقي للكويت.

عقبت هذا حرب الخليج، التي أقامها تحالف قادته أميركا وبريطانيا مع 32 دولة بمقابل العراق وحيداً، بالإضافة إلى أن الأمم المتحدة باركت هذه الحرب، إذ تمت بإذنها. كان الهدف المعلن للحرب على العراق هو تحرير الكويت، لكنها كانت في الحقيقة حرباً على العراق لتدمير ما بقي من مقاومته. كانت نتيجة هذه الحرب هي طبعاً انتصار قوات التحالف، وانسحاب العراق من الكويت، وفرض عقوبات على العراق، وخسائر بشرية ومادية فادحة، وتدمير للبنية التحتية للعراق والكويت، وأخيراً وهي أهم المكتسبات ضد العراق، وهو فرض حظر الطيران على العراق في مناطق من شماله وجنوبه، وهو ما أضعف قوات الطيران العراقي، وكان عاملاً من عوامل سقوط بغداد بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات، إبان الغزو الأميركي، بدعوى القضاء على أسلحة الدمار الشامل العراقية.

كيف يصدق أحد أن حرب أميركا على العراق كانت حرباً ضد بناء قوة تسعى لغزو العالم عن طريق السلاح النووي، في وقتٍ كان فيه العراق في أضعف حالاته، بعد كل تلك الحروب التي استنزفته اقتصادياً وعسكرياً ودمَّرت بنيته التحتية. وهل يمكن أن يصدق أحد أن التحالف ضد العراق إثر غزوه للكويت كان دعماً لقيم الديمقراطية والحرية والقوانين الدولية، في حين أنها كانت صامتة بالتزامن مع ذلك على الجرائم الإسرائيلية، كالمجزرة التي قامت بها قوات الاحتلال في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، والتي سُميت مذبحة الأقصى حينها؟ كانت أميركا دوماً صامتة، بل وداعمة اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسيا للكيان الصهيوني. فكيف يصدق أحد أنها في نفس الوقت تدعم مبادئ الديمقراطية والإنسانية والحرية والقانون؟

نستنتج من هذا السرد المقتضب شيئين: أولاً، كان النظام العراقي اندفاعياً انفعالياً وغبياً. ففي الوقت الذي كان الأحرى به هو أن يحسب كلّ خطوة يقوم بها، أزَّم بنفسه وضعه الداخلي، وصنع عداوات خارجية لا حصر لها، وأقحم نفسه في حرب تلو الأخرى، لم يكسب منها شيئاً سوى أنه استنزف كلَّ قوته. ثانياً، أحسنت القوى العظمى استغلال الفرص لتدمير العراق وإعدام صدام، ببساطة لأن غايته لم تكن الحكم في حد ذاته، وإنما الحكم لأجل مشروع قومي عربي يبني هوية عربية مستقلة.

ربما استرسلت طويلاً في سرد هذا الجانب التاريخي من قضية العراق، لكني فعلت لأبرز نموذج واضح سيخلده التاريخ لحرب القوى العظمى على مثيلاتها المحتملة. نعم كان العراق البذرة الأولى في قوة عظمى كانت محتملة.

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
لمياء الناجي
كاتبة مغربية
تحميل المزيد