كيف كانت الحياة في فلسطين قبل 1948؟ يتساءل أحد الأصدقاء وهو يُمسك كتاباً يحكي عن فلسطين زمن الانتداب البريطاني، ويكمل: ماذا لو صنعنا فيلماً وثائقياً يحكي عن فلسطين آنذاك؟ سنستعين بالكتاب ونعيد بواسطة "الأنيميشن – الرسوم المتحركة" رسم شكل الأمكنة.
لم يُكتب لهذا المشروع أن يكتمل، ولكن التساؤل يظل مشروعاً: "ماذا لو صنعنا فيلماً عن فلسطين؟ أفلاماً تمتد حكاياتها إلى ما قبل الاحتلال والانتداب"، حتى وإن تجاهل السائل واقع السينما وصناعة الأفلام بشكل عام في بلادنا العربية وغضّ الطرف عن الكثير من الأسباب -سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى- التي تحول دون أن يكون لدينا مثل هذه الأفلام.
قبل عدة سنوات بدأت أنا وصديقي الكاتب والمخرج مهند صلاحات العمل على فيلم عن صناعة الصابون النابلسي بعنوان "ذاكرة الصابون" وحاولنا ملامسة تاريخ هذه الصناعة الممتد منذ 1200 عام، وأن نقول شيئاً مغايراً ونسمع حكايات العمال وصناعتهم للصابون بنفس الطريقة التي كانت عليها منذ عشرات السنين، وكيف وصل الصابون النابلسي إلى أوروبا من خلال تصديره عبر مرفأ يافا إلى فرنسا.. للأسف توقف العمل قبل أن يرى الفيلم النور بسبب غياب التمويل وعدم اقتناع المُنتجين بجدواها كون محورها الأساسي لا يدور في فلك الصراع في "إسرائيل".
قد يكون واضحاً لماذا ارتبط وعينا، كفلسطينيين، دوماً بالنكبة؟ ولماذا تظل صور الدمار والتهجير عالقة في أذهاننا؟ ولماذا نشاهدها ونسمع حكاياتها في العديد من الأفلام (وثائقياً/ روائياً).. لكن هل يعُقل أننا نعجز عن تخيل فلسطين؟ فلا نشاهدها ولو في فيلم واحد نسمع فيه حكاية فلسطينية خالصة وكاملة بعيداً عن تأطيرها ضمن النكبة ومعطيات القضية وتشعباتها؟
سمعنا الكثير في الحكايات الشفوية من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا، وما زالت حكاياتهم مستمرة، وإن طغت على أحاديثهم روايات النكبة، ففيها أيضاً عن طفولتهم وعن الدار والبيارة ومواسم الحصاد، عن كل "لِبْلاد" كما يكتبها الشاعر الفلسطيني إياد حياتلة، وقال عنها: "بهذه الكلمة المتأرجحة بين الفصحى والعاميّة، المعلّقة بين سقف الحلق وغيمة الدمع، كان أجدادنا يشيرون إلى (البِلاد) التي غادروها ولم تغادرهم، على هذه الكلمة المنحوتة من الوجع غفا اللاجئون واستيقظوا، شربوا القهوة ودخّنوا وأفطروا وتغذّوا وتعشّوا وصلّوا وصاموا وناموا وقاموا وتناسلوا وماتوا".
في فيلم "معلول تحتفل بدمارها" للمخرج ميشيل خليفي والمُنتج عام 1985 نشاهد لوحة رسمها أحد سكان القرية التي دمرها "الإسرائيليون" وهجّروا أهلها في النكبة.. لوحة رُسمت من حكايات أهلها عن ماضي القرية وكيف كانت مليئة بالحياة، ونسمع طوال الفيلم أحاديثهم والحنين الذي لا ينتهي.. ولكن هل تكفي مثل هذه اللوحة؟ وهل كان سيكفي "الأنيميشن" الذي اقترحه صديقي لنقل صور "البِلاد"؟ قد يرد أحدهم بالقول: وكم من فيلم لدينا يحكي عن النكبة؟ قد لا أملك من الإجابة سوى: لدينا تجارب مهمة، وصلت إلى العالمية، وأزعجت المحتل.. ولكنها أقل مما نطمح!
حسناً.. يبدو الأمر ملتبساً بعض الشيء، أي فلسطين نرغب في مشاهدتها؟ فلسطين الجميلة ما قبل النكبة؟ المقاومة ضد الاستعمار والصراع من أجل الأرض؟ حكايات الجوع الممتدة في تاريخنا منذ العهد العثماني، والتي كتب عنها الكثيرون ومنهم إبراهيم نصر الله في روايته "زمن الخيول البيضاء" بأن الناس كانوا يفتشون في روث حيواناتهم عن حبات الشعير التي لم تُهضم؟ كل ذلك وأكثر جدير بالتوثيق سينمائياً – روائياً ووثائقياً، ومثل أي قصص تتناول أبعاداً شخصية وإنسانية وتسلط الضوء على نسيج اجتماعي في مراحل مختلفة من الحياة الفلسطينية، وبعيداً عن الغرق في مستنقعات السياسة.
هل نريد أن نشاهد صوراً لتلك الأيام أم قصصاً مكتملة البناء في سياق بصري وفني؟ في فيلم "المتبقي" -المقتبس عن رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"- أُنتج عام 1995 وأخرجه الإيراني سيف الله داد، حاول المخرج أن يصنع مشهدية بصرية مطابقة لفلسطين عام 1948 وتحديداً في حيفا، ولكن تطغى الأحداث والنكبة عليها وبما تفرضه القصة نفسها.. ونلتقط بعض التفاصيل والصور من مدينة الناصرة خلال احتلالها عام 1948، في فيلم "الزمن المتبقي" للمخرج إيليا سليمان، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2009.
قد تكون الصور أوضح في الملحمة السينمائية "باب الشمس" للمخرج المصري يسري نصر الله عام 2004 عن رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري التي تحمل نفس الاسم، وقال عنها: "لم تكن هذه الرّواية ممكنة لولا عشرات النساء والرّجال، في مخيّمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس وعين الحلوة، الذين فتحوا لي أبواب حكاياتهم، وأخذوني في رحلة إلى ذاكراتهم وأحلامهم"، ففي الجزء الأول من الفيلم "الرحيل" تم تجسيد قرية فلسطينية هي "عين الزيتون"، وكان لافتاً أنه لامس جانباً من حياة الفلسطينيين لسلوكهم وعاداتهم مثل الزواج، كما سلط الضوء على واقع المرأة من خلال قصة نهيلة وإصرارها على التعلم.. لكن كما هو عنوان الجزء تنتهي القصة بـ"الرحيل" والتهجير.
وهناك من الأفلام ما حاول أن ينقلنا إلى ما قبل النكبة مثل: فيلم "سرحان والماسورة" -وإن لم يتسنّ لنا مُشاهدته- وهو فيلم وثائقي تمثيلي (دُكيودراما)، من إنتاج وحدة أفلام فلسطين/ حركة فتح عام 1973، وبحسب المعلومات عنه فإنه مستوحى من قصيدة "سرحان والماسورة" للشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد عن قصة سرحان العلي الذي كان يقاوم الاستعمار البريطاني، وقام بتفجير أنابيب النفط في ثورة 1936، وفي عام 1985 تم إنتاج الفيلم الوثائقي "نداء الجذور"، من إخراج ناظم شريدي، ونقل لنا صوراً من المعالم الأثرية في فلسطين وتتبع حكايات قرى ومدن فلسطينية وتراثها وعاداتها وتقاليدها.
في سياق آخر -ليس ببعيد عن السينما- لا بد من الإشارة إلى المسلسل التلفزيوني "التغريبة الفلسطينية" للمخرج السوري حاتم علي والكاتب الفلسطيني د. وليد سيف، وتابعنا فيه واقعاً اجتماعياً وإنسانياً من حياة الفلسطينيين قبل النكبة، بل وفي قرية تم بناؤها خصيصاً إحدى مناطق حمص السورية، وقام بتصميمها مهندس الديكور الفلسطيني – السوري ناصر جليلي مستنداً -كما يقول في إحدى مقابلاته- إلى حكايات وذاكرة والده عن النكبة، بالإضافة إلى كتب مصوّرة عن الحياة في فلسطين.
وماذا عن الأفلام الفلسطينية قبل النكبة؟ بحسب بعض الروايات فإن عدد الأفلام الفلسطينية التي أُنتجت قبل النكبة 1948 لم يتجاوز سبعة أفلام، وقد ضاعت كلها ولم يصلنا منها شيء.. ومنها عن زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز إلى فلسطين عام 1935، و"أحلام تحققت" و"في ليلة العيد" لإبراهيم حسن سرحان، وما يصلنا من صور فوتوغرافية ولقطات أرشيفية -ومعظمها صورها "أجانب"- لا يزال متناثراً.. وحتى اليوم لم توظف المرويات الشفوية بالشكل المطلوب في أفلام وثائقية/روائية لتلقي الضوء على الحياة الفلسطينية قبل الاحتلال، فمعظم ما لدينا ينحصر في النكبة وتداعياتها حتى اليوم.
تقول أُم حسن في رواية باب الشمس: "فلسطين لن تعود قبل أن نموت جميعاً".. وهذا الخوف من ألا نعود قد يدفع لاجئين أو أبناء لاجئين مثلي، للبحث في لقطات الأفلام عما يُنعش أرواحنا قليلاً وينقل لنا بعض التفاصيل من الذاكرة ويُرينا صوراً حُكيت لنا، على أمل أن نشاهد حكاية كاملة عن فلسطين وليس فقط عن النكبة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.