كنت أصطحب ابنتي من الحضانة، ولفت انتباهي حديث دار بين ولي أمر تلميذ ومدرّسة الفصل، كان الوالد يشكو للمدرسة خجل ابنه وعدم قدرته على التعامل مع الغرباء، فردت المدرسة بأنها تقوم بمعالجة هذا الموضوع من خلال أنشطة مختلفة كدفعه للتحدث بصوت عالٍ مع زملائه أو عرض قصة أو حكاية مرّ بها ثم قيامه بتوجيه الأسئلة للأطفال والإجابة عليها.
لم تكن المشكلة في الإجراءات التي اتبعتها المدرّسة لحل مشكلة التلميذ، وإنما ردّها على والده بأنه صبي، والمعروف أن الولد لا بدَّ أن يكون جريئاً وصوته عالياً ولا يخاف من شيء، وهي من أساسيات تربية الولد بعكس تربية البنت التي من الممكن أن نتجاوز عن خجلها وكسوفها؛ لأنه طبيعي!
شكلت إجابتها صدمة بالنسبة لي، فهل من المعقول أننا ما زلنا نحصر تربية الولد في الجرأة والصوت العالي، وتربية البنت في الخجل والانطواء؟ هل من الطبيعي بعد كل ما نواجهه من مشاكل اجتماعية رهيبة بسبب التربية الذكورية، نجد أنفسنا نربي الأجيال الجديدة على الأخطاء نفسها التي تسبب فيها من قبلنا على طريقة "اكسر للبنت ضلع"؟!
المشكلة الحقيقية أن تربية البنت على تلك المفاهيم التي ترى في الخجل ميزة، وفي السكوت أدباً، أنها بدورها تتسبب في اكتساب مفاهيم حياتية خاطئة تحول حياة المرأة أو الفتاة فيما بعد إلى سلسلة من المعاناة والآلام، سواءً مع الأهل أو الزوج أو الأبناء، وكما قالت الكاتبة نوال السعداوي: "إن قلة عدد النساء والفتيات المهتمات بعقولهن هي ظاهرة موجودة في المجتمع العربي، وهي ظاهرة لا تدل على أن المرأة ناقصة عقل، ولكنها تدل على أن التربية التي تلقتها البنت منذ الطفولة، تخلق منها امرأة تافهة".
ويرى الدكتور خليل فاضل، أستاذ الطب النفسي، أن المرأة أصبحت وزيرة وعالمة وقاضية، ولكن النمط الاجتماعي في المجتمعات الذكورية يجعل المرأة تحسّ بأنها أقل شأناً من الرجل، وأنها بلا قيمة، وأنها وعاء وخادمة ومهمّشة، مسكينة ومغلوبة على أمرها.
المرأة التي تربت على قمع رغبتها في الكلام والضحك والبكاء والتعبير عما بداخلها بشكل عام، تنشأ فاقدة للشخصية المستقلة، فهي دائماً تابعة لأب أو أخ أو زوج… إلخ، ولا تتخيل أنها قد تمضي قدماً في الحياة دون رجل.
هي نفسها تلك المرأة التي لا تملك اتخاذ قرار فيما يخصّها سواء التعليم أو الزواج أو الإنفاق، هي نفسها تلك المرأة التي تعاني من مشكلات في حياتها الزوجية؛ لأنها لم تعتَد على البوح، ولأنها أجبرت على كبت مشاعرها وعدم التصريح بما يؤذيها إما تجنباً لمواجهة المشاكل، وإما خوفاً من نظرة الزوج أو الأهل أو الناس.
هي نفسها التي تتعرض للتحرش اللفظي والحسي يومياً دون القدرة على اتخاذ رد فعل، وإلا تعرضت للمعاملة السيئة من المجتمع أو التجاهل والتعتيم، هي نفسها تلك المرأة المعيلة التي تجاهد في الحياة لتعيش وتربي أبناءها بلا تذمر أو شكوى سواء للزوج الحاضر الغائب أو لمن حولها.
هي نفسها تلك المرأة التي تتعرض للضرب والاعتداء الجنسي والاغتصاب الزواجي وتصمت باعتبار أن البوح فضيحة والصمت فضيلة وحياء.
نحن نريدها عاجزة وضعيفة، غير قادرة على التعبير عن مشاعرها ورغباتها، نفسر الانطواء والرهبة الاجتماعية على أنها حياء ونعتبرها من سمات الفتاة المهذبة، رغم أنها ليست لها أية دلالة من الناحية الأخلاقية، نحن نريدها خائفة، تابعة، مستسلمة، بلا حول ولا قوة، نحن نربّي فيها قلة الحيلة والاعتياد على الكبت والرضا بالأمر الواقع.
ربّوها قوية وشجاعة وفخورة بأنوثتها، ادعموا رغباتها في النجاح والانطلاق، علّموها أنها بهجة الحياة، وليست عبئاً عليها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.