لا أكتب تلك التدوينات؛ كي أعرض مشكلتي وحلها وما حدث فيها، بل أعرض تجربتي مع طبيب نفسي في رحلة بحث عن مفقودات تاهت عن معظمنا.
فكرة العلاج النفسي في مجتمعاتنا لم تكن بالفكرة المرحب بها تماماً، ويحدث حولها تساؤلات شتى، وأيضاً النفور منها.. وإذا التجأت إلى الحوار؛ كي تقنع أحدهم بأهميتها ستلفظ أنفاسك الأخيرة دون إقناعهم؛ لذا الخوض في التجربة وظهور النتيجة عليك هي خير حوار في مثل هذه الأمور.
في الواقع لم تكن تلك التجربة الأولى لي مع هذا النوع من التجارب، بل هي واحدة من أربع، وكل واحدة مع طبيب مختلف.
لكل تجربة حكاياتها وجلساتها ونتائجها، منها الإيجابية والسلبية أيضاً.. سنتعرض لكل تجربة بالطبع، ربما حكاية أو انطباع أو شعور وربما جلسة كاملة بالتفصيل.
في جلسات العلاج النفسي أنا العنصر الأساسي في تلك الغرفة، ولم يكن الوحيد، أيضاً الطبيب هو عنصر لا يقل أهمية عني.. بالفعل أنا الشاكي من الألم، وهو المساعد الوحيد بعد الله عز وجل.
من كل تلك الغرف التي دخلتها لا تروق لي إلا غرفة واحدة فحسب، ضوؤها أصفر، خافت بعض الشيء، الكرسي الذي أجلس عليه مريح للغاية، وتزينها لوحات مرسومة بدقة.. هي مريحة للنفس والنظر لأقصى الحدود.
الطبيب النفسي هو بكل مقاييس التصنيف بشر، يخطئ ويصيب، شخص متخصص في علم ما يؤهله لأن يعالج الأشخاص من أشياء ربما تكون مزمنة، وربما تكون عارضة فحسب.
تجربتي الأخيرة مع طبيبي الحالي في نظري هي التي أحدثت معي فارقاً بعض الشيء؛ لأكون صادقة أحدثت فارقاً كبيراً.
دعونا نوضح بعض الأشياء.. ليس كل من يخضع للعلاج النفسي مريض؛ أغلب من أعرفهم يخضعون لذلك النوع من التجارب أشخاص طبيعيون لديهم بعض المشكلات في حياتهم ولا يستطيعون مواجهتها بمفردهم.
شخصيا لا أعوّل كثيراً على المسميات، إن كان "مريض يخضع لعلاج مع طبيب نفسي"، أو "شخص يلجأ لمساعد متخصص"؛ كلمة مريض أو حالة أو عيان، وطبيب أو مساعد أو مستشار، وعلاج أو تغيير؛ كلها مسميات تؤدي نفس الغرض، لا يهمني أي منها على الإطلاق.
في العلاج النفسي لا بد أن يتوفر أكثر من عامل كي يبدو على الأمر نتيجة واضحة وناجحة.
القبول من الشخص للطبيب من الأشياء التي سينبني عليها كثير من الأمور، ودونه لا يحدث أي نتيجة إيجابية.
الثقة، وهي العامل الثاني والأهم على الإطلاق.. وهذا الأمر ليس بالخيار، إنما هو إلزامي في تلك التجارب؛ لذا على الشخص أن يدقق الاختيار لطبيبه المعالج وبعناية.
الصدق، وهو الأمر الذي لا يوجد فيه نقاش، إذا كذبت على طبيبي المعالج -هو لا شك سيعرف ذلك- ولكن هدمت عموداً من أعمدة السبل لعلاجي النفسي! وأيضاً ينبغي على عامل الثقة، إذا لم أثق بهذا الطبيب وأكن صادقاً معه، فلم أذهب إليه من الأساس؟!
استعداد الشخص للتغيير؛ فلنقل للعلاج.. فإذا لم يكن لديه الرغبة في هذا أو مجبراً عليه، فلا نتيجة لأي شيء.
لمن خضع لهذا النوع من التجارب، لا بد أنه يعرف هذا السؤال جيداً:
ما الذي أتى بك إلى هنا؟ أو بالأحرى، ما الذي حدث وجعلك تلجأ لطبيب نفسي؟
لا أخفي عليكم، هو بالنسبة لي سؤال سمج سخيف.. أنت طبيب نفسي، أتيت لك كي تساعدني لأعرف نفسي، خباياها، مميزاتها وحسناتها، مساوئها ونقاط ضعفها.. لا لأحكي لك المشكلة التي قصمت ظهر البعير وتساعدني في حلها وتتركني بعدها أغوص في بحر من الظلمات مع غموض نفسي عليّ!
الطبيب الفاهم هو الذي يكشف عن تلك الأشياء ويستمتع بعملية البحث مع الشخص في هذا.. لا يقف عند المشكلة ويساعد صاحبها في حلها فحسب، إنما يفتش في الذكريات، المشاعر، الأحداث، الأيام، التغيرات، الطباع، الآلام والآمال.
هو يساعد إنساناً في معرفة نفسه من أين أتت وإلى أين ستذهب، وأيضاً يساعد نفسه بهذا، ولا شك أن الطبيب نفسه يخضع لتلك الجلسات مع متخصص مثله، لا تنسوا أنهم بشر مثلنا تماماً.
يحتاج الطبيب النفسي كي يتعرف على الحالة التي أمامه أن يجلس معها لا يقل عن أربع جلسات، كل واحدة منها لا تقل عن ثلاثين إلى خمسين دقيقة، فإذا كان الشخص عنده استعداد تام للتغيير سيشعر بالإنجاز في أولى الجلسات من العلاج، أما إن كان من الغامضين مثلي فربما سيجلس لتسع جلسات، كل واحدة فيها لا تقل عن نصف الساعة؛ كي يجد الطبيب لي مدخلاً يساعدني منه!
"دي الجلسة التاسعة لك معايا، بعد تمن جلسات أخيراً لقيت لك مدخل أقدر أدخل لك منه".
هكذا بالضبط ما قاله لي طبيبي الأول؛ ليخبرني كم أنا كتومة وغامضة ولا أُبيح بقليل أو كثير عن نفسي!
لذا حينما ذهبت لطبيبي الحالي أخبرته ما حدث مع طبيبي الأول، فقط ليكون على علم بما سيحدث معه بناء على تجربة لسابقيه؛ ولولا أنني كنت على أتم الاستعداد للتغيير، وأن طبيبي هذا أعتبره من الأطباء الفاهمين، لما حدث تغيير واضح في داخلي ويظهر عليّ تماماً، ولما كنت سأجلس وأكتب ما أكتب.
– أنا مش قادرة أستوعب إني أنا كده!
– لا أنت مستوعبة وعارفة بس مش راضية تصدقي.
كانت هذه بداية المشاجرات واختلاف الرأي والشد والجذب بيني وبين طبيبي.. والتي لم تنتهِ بالطبع!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.