فاطمة بنت بركة خميس (1910-2013) فنانة إفريقية مسلمة يعرفها الجميع باسم "بي كيدودي" وتعتبر من أهم أيقونات الطرب والغناء بالقارّة السمراء إفريقيا، هي فنانة تنزانية زنجبارية المولد، وزنجبار مجموعة من الجزر بالمحيط الهادي وهي كلمة محرفة من العربية إذ أطلق عليها العرب "برّ الزنج".
أحبّت "بي كيدودي" الغناء منذ طفولتها وشغفت به، مارسته في سنّ العاشرة على الموانئ التي يمرّ بها العرب الزائرون لجزيرتها أثناء رحلات التجارة وعرفت بغناء طابع الطرب السواحيلي، لم تظفر الصبيّة اليافعة بالاهتمام آنذاك فقد كان الجميع يتجنبها ولا يجلس بجانبها وذلك لملابسها الرثة التي تظهرها كمتشردة.
نشأت "بي كيدودي" في عائلة فقيرة فقد اشتغل والدها في بيع ثمار جوز الهند أثناء الاحتلال الإنكليزي لموطنها، لا تتذكر فنانتنا نشأتها الأولى كثيراً في أغلب التصريحات التي أدلت بها، لكنّها تتذكر عشقها للغناء الذي كان بمثابة الكوجيتو: "أنا أغنّي إذا أنا موجودة".
غنت "بي كيدودي" باللغة العربية وغنت لأشهر الفنانين العرب وأشهرهم على الإطلاق موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب والست كوكب الشرق أم كلثوم إلى درجة أنها قد لقبت بـ"أم كلثوم إفريقيا".
يعود تمكن هذه الفنانة من اللغة والثقافة العربية إلى علاقة زنجبار بالثقافة العربية منذ قرون خلت، فقد خضعت هذه الجزيرة إلى السيطرة العُمانية لسنوات طويلة حتى سنة 1890، أي سنة احتلالها من طرف الاستعمار البريطاني.
حمل صوت "بي كيدودي" سحر جزيرة زنجبار البعيدة، سحرها الذي يحل كلما أطلقت هذه الفنانة حنجرتها بالغناء، سحر بسيط ولكنّه عميق كسحر قدميها العاريتين على المسرح.
أبدعت "بي كيدودي" في غناء الطرب السواحيلي، وهو قالب فنيّ إفريقي عربي، وتقول بعض المصادر إن السلطان العماني والمسيطر على جزيرة زنجبار "برغش بن سعيد" في نهاية القرن التاسع عشر قد أحضر مجموعة من العازفين من مصر إلى بلاطه للعزف وتعليم الموهوبين من السكان المحليين العزف على الآلات الشرقية.
لم تمارس الفنانة "بي كيدودي" الغناء من أجل الشهرة وكسب المال والسفر بقدر ما كان طقساً روحياً تمارسه هذه الفنانة بكل محبّة وتفانٍ، أثناء إجابتها عن سؤال عن سرّ إتقانها للعزف على الطبول والغناء، أجابت بكل تواضع: "لا أغنّي من الورقة.. أنا أغني من قلبي". ومن الطرائف أن هذه الفنانة كان تعالج مرض الربو بالأعشاب الطبية وكان بيتها يستقبل المرضى طلباً للشفاء.
لم يعرف العالم الفنانة "بي كيدودي" إلا في السنوات الأخيرة من حياتها أو بعد وفاتها في سنة 2013، حصلت على جوائز كثيرة أشهرها جائزة "ووميكس العالمية" سنة 2005 تقديراً لدورها الكبير في تطوير الموسيقى والثقافة بزنجبار، كما أنها حصلت على وسام استحقاق الفنون والرياضة من وطنها تنزانيا سنة 2012.
لقبت هذه الفنانة بلقب "الجدّة الصغيرة" وعرفت بسخائها وكرمها على الفقراء، وتبنيها للأيتام، كانت طيّبة إلى درجة استغلالها، وهو الأمر الذي جعل ابن شقيقها يحتجزها في المنزل خوفاً عليها وذلك بعد تلف رئتيها جراء التدخين المفرط، حدث هذا سنة 2012 أي بعد أكثر من قرن من الغناء والانطلاق في رحاب الفن، الذي خاضته ببساطة الإنسان الإفريقي دون أن تطمع في جمع المال، وإن جمعته فهي تتصدّق به على المحتاجين والفقراء الذين يطرقون باب بيتها.
كان منعها من الغناء الطعنة الأولى التي أدت بها إلى طريق الموت، لم تكمل بي كيدودي السنة من انقطاعها عن الغناء لتموت ويبكي عليها النساء والأطفال والفقراء الذين وهبتهم ما تملك لتموت مفلسة.
تمّ تشييع جثتها في جنازة حاشدة يوم 13 أبريل 2013، وكانت جنازة مهيبة حضرها عشاقها ورئيس بلادها الذي شارك في مراسم تشييعها إلى مثواها الأخير، توفيت الجدّة الصغيرة لكنّها تركت تراثاً غنائياً كبيراً يحق لأهلها في جزر زنجبار الفخر به.
إقرأ أيضاً هذه القصة:
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.