ليست اللهجة الفلسطينية أيّة لهجة، ليس لأنها الأفضل أو الأجمل، ولكنها مميزة؛ لارتباطاتها بحكاية فلسطين وأرضها التي سُلبت، "فيافا" صارت "يافو" و"عكا".. "عكو"، والناصرة.. "نتسيرت".. هذا غير أن الكثير من الكلمات العبرية حلّت محل الكثير من الكلمات البديعة والنادرة التي تواصل بها أجدادنا.. ومن المؤسف أن بعض هذه الكلمات مُعرَّضة للانقراض، ولهذا تستحق أن نتذاكرها وندوّنها قبل أن تكون نَسياً منسيّاً!
حكاية الانقراض هذه ليست مُبالغة، بالأخص عندما نتحدث عن لهجة الريف الفلسطيني، وبالأخص القرى التي تستخدم حرف "الإتش" بدلاً من الكاف، وهو ما يُعرف بالكشكشة أحياناً، حيث يُشير الباحث محمد طه، من جامعة النجاح الوطنية بمدينة نابلس، في بحثه حول لهجات مخيم عسكر، إلى أن "الكشكشة من اللهجات الآيلة للانقراض، في المخيم، حيث إن الناطقين بها نادرون جداً؛ بسبب موت عدد هائل من الذين هُجِّروا وهم يحملون اللهجة الأصلية، إضافة إلى أن أحفادهم قلما ينطقون بالكشكشة، ولعل السبب في ذلك عائد إلى استحيائهم، واعتقادهم أن هذه اللهجة هي لهجة كبار السن".
المُشكلة لا تنحصر في الكشكشة فقط، فالكثير من الكلمات التي كان يستخدمها أجدادنا للحديث عن فصل الشتاء لم تعد حاضرة في قاموس الأحفاد إلا نادراً، ومنها كلمات مثل:
– بتوحوح: تُقال لمن يستخدم كلمة "آحا" من شدة شعوره بالبرد!
– مكرفش: تُستخدم عندما يشعر الإنسان بأن يديه تتجمدان من الصقيع.
– كروزة: تُستخدم بلفظ "تشروزة" أيضاً، وتعني حالة البرد الشديد جداً جداً.
– مُربعنيّة: هي أبرد أيام الشتاء، وهي الفترة الممتدة من 22 ديسمبر/كانون الأول إلى 31 يناير/كانون الثاني 2018.
– متشعش: بلهجة الفلاحين، وتعني حالة الاستماع بالدفء في الفراش كالجنين في بطن أمه.
ومن النوادر التي تعكس الكثير من "الذكاء اللغوي" في قاموس الأجداد، الاستعارات الذكية التي كانوا يستخدمونها، فعلى سبيل المثال: إن كُنت خارجاً ولا تريد لأحد أن يعلم وِجهتك، فإن التهرب من الإجابة لا يكون بإجابة "مدخلكش" غالباً، فهناك مواقع مُحددة تستخدم للتعبير عن رفضك للإجابة، فالإجابة بقولك إنك ذاهب إلى "طلوزة" -وهي قرية في الضفة الغربية- لا تعني أنك ذاهب إليها بالطبع، ولكنها قد تشير إلى أنك "غاضب" أو "مُنزعج" من شيء ما ولا تريد الإفصاح عن وِجهتك، والأمر نفسه عند قولهم: "رايح ع مالطة"، وهناك أسماء مواقع مثل "شكودرا"، وهي مدينة في ألبانيا أو حتى "هونولولو"، وهي عاصمة جزيرة هاواي والتي قد يستخدمها البعض دُون أن يعلموا أي شيء عن موقعها، ولكنَّ تسميتها غامضة بحيث تجعلها مفيدة للحديث عن "موقع مجهول"!
وعجائب اللهجة الفلسطينية كثيرة، ولكن بعض كلماتها تُجبرك على الوقوف عندها، فبعض الكلمات قد تبدو لك أقرب إلى اليابانيّة منها إلى العربية، ولكن مع القليل من التحليل والتفكر، يتضح أنها ليست سوى إبداع من الإبداع اللغوي للفلاح الفلسطيني، ومنها:
– هَنَهُو: تُقال كأداة إشارة، وهي مشتقة من: إنه هنا. مثال: استنى شوي.. هنهو جاي!
– مَهُوتو: تُقال للتعليل والشرح.. مثلًا: ليش لهسا واقف، مهوتو ماجاش يوخذني.
– لاخاري: يستخدمها كبار السن غالباً بدلاً من كلمة: "أخرى" أو "آخر".
– شسمو: تُستخدم كثيراً بدلاً من لفظ اسم الشيء.. مثلاً: جيب الشسمو.
– تمنّو: مُشابهة لكلمة "تنّو". مثال: قلتله شو صار؟ تمنو يجي.. بنقوللو!
استخدام هذه الكلمات آخذ في التناقص مع الوقت، مع أنه جزء لا يتجزأ من تراثنا، كما يتضح لي كُلما جلست مع جدّتي؛ بل إنني أجد أحياناً من يبتسم من بعض الكلمات التي أستخدمها في حديثي؛ لأنها تُذكرهم بجدّاتهم وكأنني أذكِّرهم بشيء من "التاريخ المنسيِّ"، علماً أنني نفسي أضطر إلى سؤال جدّتي عن بعض كلماتها، التي باتت فعلاً منسيَّة..!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.