رسالة إلى ابني الحنون: لا أتمنى شيئاً إلا أن أعيش معك

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/19 الساعة 11:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/19 الساعة 11:51 بتوقيت غرينتش
Father and son walking on an emoty country road and holding hands

بُنيّ الحبيب، مرَّ وقتٌ طويل منذ آخر رسالة كتبتها لكما، لكن رغم هذا الوقت لم تغيبا عن خاطري إلا لحظات قليلة خلال اليوم المليء بالعمل والزحمة والقيظ والبرد والمجاملات، وأكثر ما كنتُ أذكركما به من لحظات، كانت أثناء تلك الصافيات منها، وخاصة أنت.

رغم تلك السنوات التي فصلتني عنكما، إلا أنني ما زلت أشعر وكأنني خرجت من المنزل صباح هذا اليوم وسأعود إليه في المساء وقد كنتُ أعيشُ معكما الأمس بكل تفاصيله، عقلي ما زال يرفض أنني انفصلت عنكما في المكان، وعنك أنتَ بالذات، وأكره فكرة الذكرى فيما يخصّ تلك الأيام، لَكَم وددتُ أن أعيش معكما تفاصيل اليوم والليلة كاملين تامّين رغم هذا البُعد، لكن الظروف التي تحيط بكما حالت بيني وبين ذلك بكل حقدٍ وشرٍّ طالا حتى براءتكما وطفولتكما وعلاقتنا حين كنتُ ألاحظ ذلك عندما كنا نلتقي في ذاك المكان البائس، لم أتصور يوماً أن تصل علاقتكما بي إلى هذا الشكل الغريب علينا جميعاً! من أي معمل كراهية وغباء أتتكم تلك البضاعة الفاسدة يا أحباء عمري ولُبّ عقلي، من أين؟!

أحد مساءات يناير الماضي أنهيتُ عملي مبكراً جداً، لقد قاربت الشمس على المغيب وهي كما تبدو لم تشرق لكثافة الغيوم، كنت وقتها أسير على عجلة من أمري بين عيادة هذا الطبيب وذاك علَّني أُنهي عملي مبكراً كما حدث، لقد دفعني إلى ذلك أمران اثنان: أولهما أنني كنت أشعر بالجوع الشديد، وكما تعلم فأنا أحب أن أتناول طعامي في المنزل، والثاني أنني كنت لا أريدكما أن تنتظراني على الطعام طويلاً كما تفعلان دائماً وترفضان الأكل قبل عودتي من العمل، بعد هذه السنوات بُني الحبيب الغالي، أحياناً كثيرة لم أدرك بعدُ أنني تركت المنزل الذي تعيشان فيه، وذهبتُ لتاريخٍ آخر جديد.

بُنيّ الحبيب، لا يمكن أبداً أن تحملكما تلك الكلمات البسيطة إلى العالم الذي أعيش فيه بعيداً عنكما، أو أن تساعدكما ولو قليلاً على أن تتصوَّرا ماهيته وكيفيته وشكله، لا يمكن، ولا يمكن أيضاً أن تجعل من وجدانكما يتسامان روعة حين تذكراني وأنا ما زلت على وجه الأرض، لكن لا بد لي أن أبذل هذا الجهد المضنيّ وغير المجدي ربما البتة، على الأقل خلال هذا الزمن من عمريكما، والذي قد يكون لهما معنى آخر وطعماً مغايراً في أزمنة أخرى قادمة وأكون قد بذلته، خاصة حين أكون قد رحلتُ تماماً عن عالمكما وهذا العالم.

حبيبَ عمري، أريدك أن تعلم الآن أني لم أشعر ولو للحظة ببعدي عنكما، أو بالانقطاع عن تفاصيل يومكما رغم هذا البُعد، فعقلي ما زال يعيد لي تلك التفاصيل في الصباح والمساء وحين نجلس على المائدة وعندما أعود من العمل ويوم نذهب إلى المطعم والحديقة، ولحظة تفتح لي باب المرآب وتلك الابتسامة الرائعة التي كانت تزيد محيّاك روعة ورهفة، لقد كانت تنسيني عناء اليوم، واحتضانكما لي فور دخولي المنزل، والسهر على التلفاز ليلة الجمعة، والذهاب إلى السوق في المطر، أو حين كنا نذهب إلى الشارع الخارجي المخيف بعد منتصف الليل ونترجل من السيارة ونسير عبر العتمة والسكون إلا من أصوات خطواتكما وضحكاتكما البريئة، كل هذه التفاصيل أعيشها يومياً وبكل الفصول، لكني لا أعرف شيئاً عن تفاصيل حياتكما الحالية، بل خلق لي عقلي الباطن تفاصيلنا الخاصة التاريخية، والتي أعشقها معكما وتجعل من عالمي شيئاً لم تكتشفاه بعد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
بشار طافش
كاتب أردني
بشار طافش هو كاتب أردني حامل لشهادة البكالوريوس في الاقتصاد، ومؤسس منظمة Warming Observers التي تُعنى بالتوعية بظاهرة الاحتباس الحراري واحترار كوكبنا، وأعمل في مجال الدواء مديراً لأحد مستودعات الأدوية في الأردن.
تحميل المزيد