عندما تسأل حكومة في أيِّ دولة عن أسباب تفاقم مشكلة البطالة في بلدانها، خاصة بين الشباب والجامعيين، يكون الجواب حاضراً: "لدينا أزمة موارد مالية، فالسيولة المتوافرة قليلة، وتكفي بالكاد لتمويل شراء الواردات الأساسية، كالأغذية والوقود وغيرهما، وليست لدينا الأموال الكافية لإقامة مصانع ومشروعات إنتاجية توفر فرص عمل لملايين الشباب".
وتضيف بعض الحكومات إلى ذلك، أن لديها أزمة اقتصادية طاحنة، وعجزاً كبيراً في الموازنة العامة، والتزامات مالية ثابتة، كبند الأجور والدعم وفوائد القروض، وهو ما يعرقل أي خطط للتنمية الاقتصادية تنتج عنها في النهاية إضافة فرص عمل جديدة، وتلبية احتياجات العاطلين والباحثين عن فرصة عمل، حتى ولو لم تتفق مع مؤهلاتهم وخبراتهم وتعليمهم.
لكن ماذا سيكون رد فعل حكومة دولة ما تمتلك كل الإمكانات المالية المتاحة والسيولة النقدية الضخمة، وتتدفق إلى خزانتها العامة مليارات الدولارات سنوياً، ولديها أيضاً من المشروعات والأنشطة الاقتصادية ما يكفي لاستيعاب الأيدي العاملة، بل واستيراد العمالة من الخارج لتغطية العجز في الموارد البشرية، وبالتالي لا يوجد لديها مبرر واحد لأن يكون معدل البطالة فيها يفوق نظيره في دول فقيرة، أو ضعيفة الموارد المالية، أو ليست لديها موارد طبيعية.
وأبرز مثال على النوعية الثانية من الدول التي تعاني من بطالة عالية رغم الثراء الفاحش، السعودية، التي تمتلك من الثروات ما يجعلها قادرة، ليس فقط على توفير فرص عمل لنحو مليوني سعودي عاطل عن العمل، ولكن توفير فرص لكل الشباب العربي.
فالسعودية تعد الدولة العربية الأولى في حجم احتياطي النقد الأجنبي، حيث تمتلك احتياطيات تبلغ نحو 500 مليار دولار، وهذا مبلغ قلَّما يتوافر لدى دولة لا تنتمي لعالم الدول الثماني الكبار، أو الدول المتقدمة، ويكفي لإقامة مشروعات عملاقة في كل القطاعات.
كما تعد السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، بطاقة إنتاجية تفوق 10 ملايين برميل يومياً، ويدخل خزانتها مع كل طلعة شمس ما يزيد على 550 مليون دولار، إذا افترضنا أن سعر برميل النفط حالياً هو 77 دولاراً، وأن صادرات المملكة تبلغ 7.250 مليون برميل يومياً.
تصوروا أن دولة لديها هذه الإمكانات المالية والنفطية العملاقة، ورغم ذلك يصل فيها معدل البطالة لحاجز 13%، طبقاً لآخر أرقام صادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، التابعة للدولة، وأن هناك 1.07 مليون سعودي يبحثون عن فرصة عمل ولا يجدونها.
تصوروا أيضاً دولة بهذه المعدلات القياسية من البطالة، رغم أن سوق العمل لديها يخرج منها نحو 242 ألف وافد عربي وأجنبي خلال الربع الأول من العام الجاري، وقبلها غادر السعودية أكثر من نصف مليون وافد خلال العام الماضي 2017، رغم أن 47% من السعوديين العاطلين من العمل تلقَّوا تعليماً حتى المرحلة الثانوية.
لنتصور حال البطالة وتفاقمها في بلد بالغ الثراء، في حال عدم مغادرة أكثر من 750 ألف وافد للمملكة خلال الـ18 شهراً الماضية، حسب إحصاءات أصدرتها المديرية العامة للجوازات، وأن هؤلاء حصلوا جميعاً على تأشيرات "خروج نهائي" من المملكة؛ هرباً من جحيم الرسوم العالية والأعباء المعيشية، وزيادة الأسعار.
أزمة البطالة في السعودية ليست أزمة موارد مالية على الإطلاق، فالموارد متاحة وبمليارات الدولارات، كما قلت، بل هي أزمة سوء إدارة، مِن أبرز ملامحها الفشل في سياسة التوطين، وإقناع القطاع الخاص بتوظيف المواطنين رغم رفع شعار "السعودة" منذ سنوات طويلة، وعدم استغلال الموارد المالية المتاحة في المجتمع لصالح المواطن، والاكتفاء بوضع الاحتياطي النقدي في البنوك الأميركية والغربية، دون استفادة المواطن منه، وتوجيه جزء مهم من موارد الدولة لتمويل شراء أسلحة، وشنّ حرب على اليمنيين، ودعم أنظمة فاشية في المنطقة.
كما تمثَّل سوءُ الإدارة في استمرار الاعتماد شبه الكلي على الأجانب في إدارة دولاب العمل في المؤسسات الحكومية والإنتاجية والخدمية. وحسب الأرقام الحديثة، فإن عدد الأجانب المشتغلين بلغ 10.18 مليون عامل، ما يمثل 76.4% من إجمالي المشتغلين في السعودية، فيما بلغ عدد المشتغلين السعوديين 3.15 مليون فرد، وهو ما يمثل 23.6% من الإجمالي.
والأخطر من كل ما سبق هو فشل المسؤولين في إقناع المواطن السعودي بالعمل في المهن والحرف، وأكبر دليل على ذلك التراجع عن تطبيق قرار توطين العمالة في 12 نشاطاً ومهنة، والذي قيل إنه سيؤمّن مئات الآلاف من الوظائف للسعوديين والسعوديات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.