كثيرة هي المرات التي زرت فيها إسطنبول، لا أدري كم هي بالضبط، ولكن الذي أعلمه جيداً أن في هذه المدينة سحراً لا تفسّره القوانين المادية، فقد تفوتك الطائرة فيها بسبب عنجهية موظف تركي لا يجيد العربية، وقد تجد نفسك موضع شكّ في مكتب صرافة لأنك عربي، وقد يزعجك العشرات من الباعة -العرب خاصة- وهم يقفزون في وجهك من كل حدب وصوب: "تفضلوا عالمحل".. ومع ذلك تشعر بأن كل هذه المنغّصات لا شيء أمام سحر المدينة، وأنك بحاجة للعودة إليها في أقرب فرصة!
في آخر زيارة لم يكن هدفي زيارة مسجد السليمانية الذي أعشق إطلالته على البسفور، ولا حتى السلطان أحمد وما فيه من عراقة وجمال، ولا حتى مسجد أبي أيوب الأنصاري والإطلالة الرائعة عند مقهى برلوتي.. وإن كنت فعلت كل ذلك، إلا أن طعام الشوارع في هذه المدينة هو ما كان يستهويني، ولا أقصد هنا "الدونر" ولا حتى وجبات "الكباب" على اختلافها.. ففي هذه المدينة أكثر من ذلك بكثير!
عند شاطئ آمينينو مثلاً، هناك الكثير من المطاعم الفاخرة التي تقدم الكثير من الوجبات التي قد نجد مثلها وأفضل منها في بلادنا، بيد أن هناك أكلات شعبية لا تؤكل إلا هنا مثل ساندويتشه "بالك إكمك" وهي وجبة بسيطة جداً، تتكون من قطعة سمك الفيليه والخسّ والقليل من البصل في ساندويتش، لا يضاف عليه إلا شيء بسيط من الليمون وربما الملح أو الفلفل.. ولا يزيد من لذة هذه الوجبة إلا بساطتها وتناولها عند الشاطئ بعد مغيب الشمس.
وجبة ميدي دولما، التي تباع عند الشاطئ أيضاً، وتؤكل وقوفاً، وربما بسرعة "مجنونة" أحياناً، ليست بسيطة وإن بدت كذلك، فهي عبارة عن نصف صدفة عليها محار محشوّ بالأرز المتبل، وغالباً ما تكون "حارّة" بدرجة تجعل من يجربها يطلب المزيد والمزيد، ولعل السر في الليمون الذي يعصره البائع بمهارة على كل قطعة، وبالتالي فقد تصل تكاليف "الوقفة" عند صاحب كشك الصدف أكثر بكثير من الجلوس في مطعم، خاصة إذا كان عند البائع ما يكفي من المهارة ليجعلك تأكل وتأكل وأنت لا تدري كم أكلت وكم ستُحاسب!
الأعجب من هذه الوجبة، هي "الكوكوريتش" وهي من أعجب وجبات الشوارع، فبينما هي تشبه وجبة "الكرشات" أو "أم الضراير" في بلادنا، وتعتبر من الوجبات "الفاخرة" في مجتمعات الفلاحين، إلا أن "الكوكوريتش" التي تتكون من أمعاء الماعز المُتبلة والتي تباع في الشارع كما تباع في المطاعم الشعبية، وبأسعار ليست رخيصة نسبياً، فالوجبة منها قد تصل إلى 30 ليرة، حتى لو أُكلت في صحن صغير في مطعم شعبي في طابق ضيق تحت الأرض وبعد وقت انتظار طويل نسبياً، والأكيد أنها تستحق التجربة، ولا أبالغ إن قلت إنها من "المعالم الإسطنبولية" التي لابد من الاقتراب منها وتجربتها ولو لمرّة، فأسياخها تُرى في كل ناحية، وقد يظنها "الغشيم" شوارما، بيد أنها مختلفة عنها كل الاختلاف بطعمها المميز، كما لا أظن أنها موجودة في غير تركيا إلا في بلاد البلقان!
ولأن الأذواق ليست واحدة، فإن وجبة "الكوكوريتش" ليست ذائعة الصيت، فالبعض لا يتخيّل نفسه يتذوق أمعاء ماعز أو خروف، بيد أن هناك أكلات عليها شبه إجماع، مثل "السيميت" وهي أكلة سريعة، كما ليس هناك أشهر ولا أرخص منها، ومع ذلك لذيذة في بساطتها، وقد يضاف إليها شيء من الأجبان أو ربما الشوكولاته وتنفع للفطور بشكل خاص، كل هذا غير أنها تذكر السائح الفلسطيني بشيء من ذكرياته مع كعك القدس وإن اختلفت عنها، إلا أن ذكرى القدس مع "السيميت" لها جمالها في حضرة إسطنبول!
وعلى سيرة القدس وفلسطين، فإن كلمة "تطلي" التركية والتي تستخدم لوصف الأطعمة ذات المذاق الحلو، لا تزال تستخدم في فلسطين حتى يومنا هذا، ولكن بمعنى "مربى"، وهذه الكلمة ليست شاذة، فهناك مثلها الكثير، كما أن هناك أكلات وصلت إلى فلسطين في الماضي عن طريق تركيا مثل جبنة "الكشكوان"، وقد لاحظت مؤخراً أن واحدة من ألذّ الوجبات الإسطنبولية قد انتقلت إلى شوارع الناصرة وطيرة بني صعب مثلاً.. وهي وجبة "الكومبير"، وهي عبارة عن قطعة بطاطا من الحجم الكبير تخبز في فرن ثم يضاف إليها شيء من الزبدة والجبنة الصفراء وأصناف من السلطات تجعلها وجبة "فاخرة" رغم بساطتها، وقد وجدتُ هذه الوجبة تباع في ألمانيا أيضاً!
الأكيد أن القائمة أطول بكثير من أن تنحصر في هذه الوجبات، فهناك أكلات كالكستناء والذرة المشويّة لا يمكن لزائر أن يزور إسطنبول ويرغب في عيش تفاصيلها ولا يجربها، تماماً كما أن هناك حلوى مثل الكنافة مع البوظة أو حلوى الفستق الحلبي الفاخرة "فستكلي دولما"، أو حتى حلوى "دبس العنب مع الجوز" الشعبية؛ وهي رائعة من روائع الحلوى التركية ومعلم إسطنبولي لذيذ، يستحق أن نُجربه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.