الحُبِّ الصادق.. أصله ثابت وسيبلغ يوماً فرعُه السماء

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/15 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/13 الساعة 16:40 بتوقيت غرينتش
Red heart in child kid and mother hands on old blue wooden table in vintage retro style

طلبتْ مِن أمِّها أنْ تأتيَ إلينا لقضاءِ بعضِ الأيامِ في حضرةِ جَدَّتِها وَسطِ أَخْوالِها. اتخذتْ قَرارها لِخوضِ التجربةِ مرةً ثانية في سن العاشرة بعدَ مرورِ ما يُجاوزُ الستّ سنوات عن أولها!

 وما إنْ دخلتْ بيتنا حتى انهارتْ في البكاء صارخةً كأنَّ قلبَها الذي ينتفض أنْ كيفَ فعلتِ هذا! تلومُ نفسَها بحسرة، ثم طلبتْ منّا الاتصالَ فوراً بأمِّها… وإنِّي على يقينٍ أنَّها لم تكنْ تدري لماذا ستتصل بعد فراقها أمّها لأقل مِن ساعة فقط، إلا أنَّها النَّزعة الداخلية والحنين إلى الأصل، وشيءٌ يصرخُ في أُذُنِ قلبها أنْ لا حياة دون ذلك الصوت، كأنَّه صوتٌ يحرك دمَها في العروق، أو يعطيه صدمةً كهربائية أخيرة تُنعشه مِن جديد! الجميع يحاول تَهْدِئتَها وهي لا تلبثُ أنْ تصرخ في الجميع: اتصلوا بها.

 وأنا بينَ كلِّ ما يحدث أنظرُ إليها في عجبٍ صامتاً! قدْ قضتْ معنا في سنِّ الرابعة ثلاثة أيامٍ دونَ صراخ ولا بكاء، لم تطلب فيها قط أنْ ترى أمَّها إلا مرةّ أو اثنتين وليس مِن أول يوم!

 تلكَ المشاعرُ التي تكبرُ مع الأيام، على عكس ما نسمع أنّ ما نشعر به في سنِّ السابعة سيصيرُ غثاءً بمرور الوقت، أو تلك الجميلة التي أحببتها في العاشرة ستنساها ببلوغِ العشرين!

 ربَّما.. أمَّا الصادقُ منه فلا تذبل أزهارُه ولا تُخمِدُه الأيام، بل يفوحُ عبيره كلَّ يوم؛ لِيُنبئ بأنّ ربيعَه لم ينطفئ بعد، وأنَّه ما رأى خريفاً قط، وأنَّه دوماً ذو ليالٍ نيّرة ونهارٍ مشرق.

 أُدركُ يقيناً أنَّها ستكبر، وسيأتي يوم وتنهار في البكاء أكثر من ذلك بكثير، ربما لقدرٍ أو لِبعدها عَن أمِّها لسفرٍ وليالٍ معدودة…. والأمرُ ليس بالعجيبِ أبداً؛ هي ليست –بالطبع– أكثر صلابةً من ذلك الذي انهارَ في البكاء بِخَطْوِهِ أول درجة مِن سلم الطائرة هاجراً أحبابه وأهليه، مهاجراً إلى حيثُ المغامرة أو الفرار، تاركاً وطنه وصحبه! قدْ جاوزَ العشرين بكثير وبه من النضج ما يمنحه القوة، ولكنَّه ما إنْ شعرَ بالفراق والحنين إلا وأدرك أنَّ رباطَ الحُبّ الصادق أعظمُ وطئاً في صدره وأشدُّ عليه من جنونِ مغامرته!

ولستُ أدري أحقٌ هو أم أنَّه ضَربٌ مِن الخيال؟ فقد حُرم صاحبنا النوم ليلةً كاملةً قضاها يقرأ جوابات أبيه إلى أمه في فترة الخطوبة، وكيف كان الحديث أرقَّه وأعذبَه، وكأنَّهما كانا يكتبان حروفهما بدموع الحنين والشوق إلى لقاءٍ محمود!

 قد أنفق ليلته في قراءةِ تلكَ الجوابات التي قد عثر عليها بأحد الأرفف الخاصة بوالده، كلّما أنهى جواباً هَمّ بقراءةِ الآخر غيرَ آبهٍ بالوقت وكأنّه من الحديثِ طَرَفٌ وليس مجرد مطَّلِع وجدها صدفةً فأثارت فضولَه؛ ليعرفَ كيف كان حديثُ المحبين قديماً وحَبّذا إنْ كان الحبيبان أبويه!

 قد ظل أبوه محتفظاً بتلك الأوراق التي تواعد فيها وأُمُّه بالزواج، وأنْ يُسميا ولدهما الأول "مُحمد"، وها هو يقرأ كلامَهما فَتنهمر دموعُه من فَرطِ نقاءِ الحديث، وصِدقِ الوعود!

 قد احتفظ بها لثلاثينَ عاماً أو أكثر؛ ليُطلعه عليها يوماً فيُخبره أنّ الحب الصادق لا يؤمن إلا بالوَعد الصادق، ولا يثق إلا بالرجال، ولا يعرف إلا المُرابطات!

 ما يدفعُ الحجيجَ لِبَذلِ كلِّ غالٍ وثمين، فقط لتلبيةِ نداءِ ربِّهم والسعي والاقتراب أكثر!

 ما يدفعُ العجوزَ لقضاء وقت ليس بالقليل بجوار قبر زوجِه ساقياً أزهاره، قاصاً عليها تفاصيل يومِه مِن القيام إلى المنام!

ما يُجبر الفتى المغامر على العودة إلى وطنِه فارّاً لا يدرى مِن ماذا…. إلا أنَّه يريدُ الحياة!

 ما يُبكي الصبيَّ والهَرِم، الرجال والنساء، القوي والضعيف!… هو لا يعرفُ التفريقَ أصلاً، هو العادل المساوي بين الجميع فلا يُميز أو يختار! المانحُ بلا حدودٍ أو جزية؛ لأنه من الله عطاء ومِنه هبةٌ فلا يعرف إلا الفضل والسخاء.

 كلّها مشاهد تُثبت أنَّ الحب الصادق أعظم في القلوب من الزمان والمكان والعِرق!

 إنَّ رباطَ الحُبِّ الصادق أصله لثابت وسيبلغ يوماً فرعُه السماء.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمود العيسوي
طالب في كلية الصيدلة
وُلدت في الأول من فبراير عام ١٩٩٨، أدرس بكلية الصيدلة في الفرقة الرابعة، كاتب مقالات وقصص قصيرة، باحث مهتم بالشأن الإسلامي التاريخي والسياسي، أحاول أن أتركَ أثراً عن طريق مجالي الدواء والكتابة.
تحميل المزيد