الغربة هي أكثر ما يؤدّبنا ويعلّمنا عن قيمة الوطن، الوحدة تخبرنا عن قيمة من خلّفناهم في أوطاننا سعياً وراء لقمة العيش، أو ربما بحثاً عن نصف وطن وربع كرامة نحيا بها بعيداً عن سياسات لا نجيدها، وحكامٍ لا نجيد التطبيل لهم.
وهكذا تمر بنا السنون نلهث وراء الصحبة واللمّة والأصدقاء عوضاً عن الأهل.. التجمعات الرمضانية وحفلات الشواء هي أفضل طريقة في الغالب. كنت وافدة جديدة إلى مدينة فانكوفر الساحرة الخلابة، تجمعوا في حفل شواء كبير تابع لمسجد المنطقة التي كنت أقطن بها.
جلست بفرحة أتابع الأطفال وهم مصطفون في طوابير ينتظرون الحلوى والسكاكر، أما هؤلاء الأطفال على الجانب الأيمن من الحديقة الكبيرة فقد اصطفوا في انتظار دورهم في تلك الألعاب المطاطية المخصصة للقفز.. وهؤلاء انتظروا دورهم كي يرسموا بعض الشخصيات الكرتونية والأشكال المبهجة على وجوههم.
لاحظت تلك اللواتي يرددن أغنيات العيد، وتلك اللواتي يتبادلن العناق الطويل بعد طول غياب، ساعتها سألت نفسي: "هل يمكن أن يحب الناس بعضهم بعضاً إلى تلك الدرجة من الافتقاد، حتى وإن لم يكن يربطهم معاً إلا الغربة؟".. وحقاً وبعد مرور سنوات أخرى ما زلت أسأل نفسي نفس السؤال!
بعدها تبادلتُ أطراف الحديث معها، سورية لطيفة وحلوة المعشر.. كانت مختلفة عن النموذج السوري من النساء اللواتي اعتدت رؤيتهن بعباءة طويلة وغطاء للرأس محبوك بأناقة فوق الرأس، كانت لا ترتدي الحجاب ولديها ثلاثة من الأولاد، تعرفت إليها سريعاً؛ لأن أولادنا يذهبون لنفس دار الحضانة، هذه المرة بدا عليها الهمّ أكثر من كل مرة، وربما اشتعل رأسها بشعيرات المشيب أكثر من ذي قبل، اعتراها القلق وهي تخبرني عن أهلها وزوج أختها المقتول حديثاً.. لا أحد يخرج للتبضع، أمها لا تعرف ملامح أبنائها الأوسط والأصغر.. الاتصالات ضعيفة وفارق التوقيت.. لا شبكة إنترنت.. أكدت لي أنه بمثابة كل شهر يُقتَل أحدهم في غارة من غارات بشار "الله لا يوفقه.. الله يحرق قلبه بشار!"، هكذا قالت بحرقة!
حكت لي عن معاناة زوجها خريج الكلية المرموقة بسوريا في أن يجد عملاً هنا بكندا، قضى قرابة العامين يتنقل بين الوظائف المختلفة، ولا يستمر أكثر من شهرين في كل وظيفة.. هم لا يتركون مَن يشغل وظائفهم دون شهادة جامعية كندية، والشهادة تتطلب دراسة ومعادلة، والمعادلة تحتاج أموالاً طائلة، وهكذا دواليك.. والأمرُّ من ذلك أنه ليس هناك مفرّ من الدوران في تلك الدائرة المغلقة ولا مجال للعودة للوطن الحبيب!
اعتذرت لي ثم انصرفت؛ لأن ما تحدثني به لا يتناسب وأجواء العيد والفرحة المبهجة.. وتفهمت وأومأت باحترام.. لم ألُمْها حتى بيني وبين نفسي.. أنا أعلم جيداً عن تلك اللحظات، لحظات البعبعة، وقتما يفيض بنا الكيل نحتاج في بعض الأحيان أن نتكلم.. أن نبوح.. أن نعبر.. أو ربما نصرخ.. ويا حبذا لو كنت تتحدث مع غريب لا يعرفك، ستوقن ساعتها أنك تجيد الفضفضة، تجيد الفضفضة للغرباء، ببساطة لأنه لا يوجد أقرباء.. لا دفء في الغربة!
تأثرت بحديثها وزفرت زفرة حرارة أنفث فيها خالص الدعاء لها ولأحبابها، وانصرفت لحالي بحثاً عن الطعام.. وصلت للطاولة، مددت يدي لأتناول بعضاً من ذاك الغموس ورفعته في بطء لرغيفي وسمّيت الله وهممت بتناول اللقمة، فإذا بها بجواري تسمّي الله هي الأخرى وترفع يدها للسماء، تدعو لبشار بالبركة والخير وتمام النعمة والعافية!
تحشرج الطعام في فمي، ومضغت بصعوبة وأنا أنظر لها في غير تصديق.. لم أستطع أن أداري حملقتي بها، والتي جعلتها تنظر لي.. بادرت بالابتسام ثم ألقت التحية.. رددت التحية، همهمات لا أعرف هل يجب أن أرد أم أبتلع الصمت مع لقيماتي!
فبادأتني الحديث: من وين أختي؟
قلت: من مصر.
فمدت شفتيها للأمام بشفقة وكسرت عينيها بتأثر، وقالت: بلكي تكونوا بخير، الله لا يوفقه ها المجرم تبعكم.
رفعت حاجبي باندهاش وسألتها باهتمام زور يخفي تهكمي اللئيم: وكيف حال مجرمكم؟
فتبدلت حمامة السلام على وجهها ببومة، وتغيَّرت ملامح الأسى والشفقة للقسوة والجحود وزجرتني بعينين متَّقدتين كالجمر: بشار الله يحميه ويوفقه، ويخلصنا من هادول الإرهابيين!
فقلت بنبرة مَن شعر بأنه لا مجال ولا جدال: تمام تمام.. الله يصلح الأحوال يا رب.
فزادت: وشو أحوال الناس؟
فرددت: والله لا أكذبك القول الناس في حالين.. الغني زاد غنى ويدعيله، خفف عنه الضريبة وزال عنه هم الصعاليك ممن يعملون لديه وليس لهم حقوق، والفقير يدعو عليه من ضيق الحال.. ماذا ننتظر ممن حاصر القصر الرئاسي واغتصب كرسي الحكم من رئيس شرعي منتخب؟
فقالت: آآآخ.. ها السيس..
فقاطعتها وقد جحظت عيناي رعباً: لا عزيزتي أنا لا أتحدث عن مصر.. أنا أتحدث عن تشيلي وجنرالها المنقلب أوجستو بيونشيه، بعدما انقلب على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي.. اخفضي صوتك عزيزتي.. الحيطان لها ودان والعمر مش بعزقة!
وما فتئ الوطن متروكاً، ويبقى الحال على ما هو عليه، وعلى المتضرر اللجوء لرب السماء!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.