لست من عشاق كرة القدم. حتى عندما تألق محمد صلاح مع ليفربول لم أصبح متابعة مخلصة للمباريات بالضرورة. لكن تشجيع منتخب مصر في كأس العالم كان واجباً وطنياً، وفخاً للسقوط في غرام الساحرة المتلاعبة بالأعصاب.
أمام شاشات روسيا 2018 أصبحت فريسة لهذه العلامات التجارية العملاقة، والحملات الإعلانية الصاخبة، وهذه القنوات التي تبيع نفسها للمعلنين، فتختلط التحليلات الرياضية بالخلفيات الإعلانية بالأهواء السياسية في كومبو كأس العالم.
قررت أن أبحث وأعرف أكثر عن فيفا، هذا الكائن العملاق الذي يتحكم في عالم الكرة، وفلوسها، ومهاويسها المساكين، المحترفين العارفين، أو الساذجين المبتدئين مثلي.
تعرف فيفا نفسها بأنها منظمة غير هادفة للربح، توفر الاستثمارات لتطوير اللعبة المفضلة بالعالم. هناك أكثر من 240 مليون لاعب في 1.4 مليون فريق و300 ألف ناد في الكوكب.
من أين تأتي فلوس فيفا؟
الإعلان عن الموازنة المالية للاتحاد الدولي لكرة القدم أمر جديد، نشر أول تقرير مالي محكم وفق المعايير الدولية (IFRS) عام 2003. ويكسب الاتحاد الدولي من أربع موارد رئيسية، بيع حقوق البث، وحقوق التسويق والإعلانات، وحقوق الترخيص باستخدام شعار فيفا، وأخيراً حقوق الاستضافة والتذاكر.
بين عامي 2015 – 2018 بلغت إيرادات فيفا 5.65 بليون دولار. بهذا المبلغ يبيع الاتحاد الدولي كل شيء يخص الكرة: البث والترخيص والتذاكر وبرامج فيفا وأفلاماً وفيديوهات.
طيب، أين تذهب أموال فيفا؟
بلغ حجم إنفاق المنظمة في الفترة نفسها نحو 5.56 مليار دولار، أي بقدر الواردات بالضبط. تنفق فيفا ثرواتها الحلال في 5 بنود رسمية وهي تنظيم الأحداث الرياضية، مشروعات تطوير اللعبة، رواتب حكومة فيفا، تسويق عقود البث، وأخيراً الإنفاق على التحكيم.
وكيف تحولت الكرة إلى ماكينة تدر المليارات؟
بعد إحدى الصدمات الأولى لهذه الدورة بخروج الأرجنتين، وجد عشاق ليونيل ميسي في الصين الكثير من العزاء في الإعلانات. ظل وجه اللاعب حاضراً على شاشات التلفزيون الوطني، في الحملة الإعلانية لشركة منغنيو Mengniu الصينية لمنتجات الألبان. منغنيو كانت تضع مجسمات أبقارها أمام الملاعب في روسيا، بصفتها إحدى الشركات الراعية للبطولة.
الشركات التي تشتري إعلانات كأس العالم كانت فكرة عادية، حتى طورها البرازيلي هافيلانج ثعلب فيفا، ووريثه السويسري بلاتر، الإمبراطور الذي أفسد اللعبة بالبيزنس والرشاوى.
جان هافيلانج البرازيلي الذي اعتلى قمة فيفا عام 1974 أعلنها مبكراً: جئت لأبيع سلعة اسمها كرة القدم.
إنه الرجل الذي حكم كرة القدم من زيورخ وكان يملك أهم شركة نقل في البرازيل وأعمالاً أخرى في المضاربات المالية وبيع الأسلحة والتأمين على الحياة، كما يحكي الأديب الأوروغواني إدوارد غاليانو في كتابه "كرة القدم في الظل والشمس".
حتى الخمور تجد طريقها إلى المدرجات؟
نعم. هذا الملك العجوز بدل جغرافية كرة القدم وحولها إلى أكثر التجارات العالمية ازدهاراً.
تضاعف عدد المشاركين في المونديال من 16 عام 1974 إلى 32 منتخباً في 1998. هو من بدأ بيع حقوق البث، ووضع طريقة اختيار الشركات المُعلنة التي تدفع أكثر، فالآلة التي تحول كل عاطفة إلى أموال لا تهتم بالترويج لمنتجات صحية ومفيدة للحياة الرياضية.
عرفتم لماذا باع فيفا جائزة أفضل لاعب في المباراة لشركة بيرة؟
قبل مونديال البرازيل 2014 منعت البرازيل بيع الخمور حول الملاعب ابتداء من 1999، لأنها تتسبب في زيادة الشجار بين الجماهير. لكن 2012 ومع اقتراب المونديال تدخلت فيفا، وأرغمت البرازيل على التراجع. لماذا؟ فيفا متعاقدة مع نفس شركة البيرة، وانتصرت فيفا والبيرة على البرازيل.
منذ تأسيسها قبل 114 عاماً، تعاقب على حكم الفيفا 9 رؤساء فقط، وهو ما يعطينا فكرة عن مدى شفافيتها وديمقراطيتها!
طيب، ما الذي تغير بعد عاصفة التحقيقات في الفساد؟
المونديال في نسخته الـ21 كان يواجه أزمة إعلانية غير مسبوقة، ولم يجمع أكثر من 17 اسماً إعلانياً أو من أصل 36، في أعقاب التحقيق مع 18 مسؤولاً في فيفا باتهامات متنوعة بالفساد. طبقاً لتقرير فيفا انخفضت عائدات عقود التسويق من 404 ملايين دولار عام 2013 إلى 246 مليون دولار في 2018.
الأزمة الإعلانية الأكبر في عمر الفيفا منذ إنشائها من 114 عاماً شجعت 7 شركات صينية لدخول قائمة رعاة كأس العالم، وكانت منغنيو لمنتجات الألبان إحداها. هذه الشركات استفادت بصورة فورية من ظهورها في المونديال، وبعضها أعلن عن زيادة مبيعاته بنسبة 65% بعد توقيع عقد التسويق مع الفيفا في 2016.
الشركات الصينية الكبرى تتحرك ضمن خريطة طريق تقود إلى فوز الصين بتنظيم المونديال في غضون عقدين. وتستغل تردد الشركات الغربية في التعاون مع فيفا "الفاسدة".
يقول باتريك نالي المسؤول التنفيذي للرعاية الرياضية الذي ساعد في تأسيس أول برنامج تسويق للاتحاد الدولي، إن فيفا أصبح شبهة للمتعاقدين معه الآن، "أصبح علامة تجارية سامة لأي مُعلن، ما لم تكن شركة من الشرق الأقصى، البعيد عن محاكم أميركا".
وكيف تؤثر فلوس الإعلانات على فنيات اللعب؟
في مونديال 1986 بالمكسيك احتج مارادونا وفالدانو وآخرون لأن المباريات الرئيسية كانت تجرى في منتصف النهار، تحت شمس تقلي كل ما تلمسه، كما كتب غاليانو. ولكن الظهيرة في المكسيك هي ساعة الغروب في أوروبا وهو التوقيت الذي يناسب التلفزيون الأوروبي، وشركاته المعلنة، وجمهوره المستهدف.
في عام 1973 كان مارادونا في الثالثة عشرة من عمره، ناشئاً خارقاً في فريق الأبصال الصغيرة Los Cebollitas، وينقل غاليانو عن زميله الناشئ المعروف بلقب "السم" قوله: نحن نلعب من أجل المتعة لم نلعب من أجل المال مطلقاً فعندما يدخل المال في الموضوع يقتتل الجميع من أجل أن يصبحوا نجوماً، وعندئذ يأتي الحسد والأنانية.
كرة القدم هي اللعبة الأولى بكل لغات العالم، لكن للكبار رأياً آخر فهي سلعة الكبار تباع للقنوات الأكبر التي تنقل إعلانات الماركات الأكبر، وتلتهم وعيك دون أي مقاومة.
الكرة تتلاعب بأعصابك وأنت في انتظار الهدف، منبهرا بحركات اللاعبين البهلوانية، ومناورات المدربين.
والإعلانات تصطادك، فتبحث عن الملابس الرياضية المشابهة لما يرتديها محمد صلاح أو ميسي. ويصر الأطفال على تناول الوجبات السريعة التي تنهمر على الشاشة بين الشوطين.
أنت في قبضة الكبار، هكذا قلت لنفسي وأنا على كنبة كأس العالم، استمتع بما تبقى للإنسانية من بهجة، لم يفسدها "فيفا وشركاه".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.