مِن كُرهٍ لحُبٍّ، وصولاً لعشق ومتابعة بحماس شديد، مِن استهزاء باللعبة ذاتها ومن متابعيها بعض الأحيان، إلى البحث بشغفٍ عن كل ما يخص هذه اللعبة، من اليقين بأنها واحدة من أساليب إلهاء الشعوب في جميع أنحاء العالم، وأداة من أدوات تضييع الوقت، إلى الاستمتاع بهذا الوقت الضائع.
إنه الحب الذي تحوَّل لشغف بعد كُره شديد، إنه التحول ربما يأساً من أحوال البلاد والعباد، وما يحدث من إراقة دماء وشهداء من هنا وهناك، ناهيك عن القضية الفلسطينية، التي أصبح التعبير عنها، والمناداة بتحرير الأرض من يد المغتصب الغاشم، الكيان الصهيوني، مقتصراً على الهاشتاغات من خلال مواقع افتراضية، لا تُسمن ولا تغني من جوع على أرض الواقع.
إنها باختصار شديد لعبة كرة القدم، تلك اللعبة الأكثر شعبية حول العالم، وفي أهم بطولة في عالم الساحرة المستديرة، وهي بطولة كأس العالم التي تقام كل أربع سنوات، وتحديداً هذا العام، نسخة روسيا 2018، اكتشفتُ الكثيرين والكثيرات ممَّن يحبون ويعشقون هذه اللعبة، ويهللون فرحاً عندما تدخل الكرة داخل المرمى، ويسجل فريقهم هدفاً، ويفوز على الفريق المنافس محققاً بطولة ما، وعن تلك الجماهير الحزينة التي تنهار بالبكاء حزناً بسبب خسارة فريقها، وتنام حزينة بسبب نتيجة مباراة هي في نهاية الأمر مجرد لعبة، وعن التحول الذي أصاب الكثير من الفتيات حيث الحب بعد الكره، ثم تشجيع أندية بعينها، والحرص على متابعة جميع مباريات هذه الأندية وصولاً للبطولات، وهنا جاءتي فكرة المقال، حيث أنواع الجماهير، ومدى سيطرة تلك اللعبة على عقولهم، وهل الحب دافع لضياع كل هذا الوقت، أم أنه الاستسهال وفقدان الأمل واليأس من واقع مرير؟ هل الاستمتاع باللعبة الحلوة هو فقط مبرر لضياع ساعات من عمرك؟ أم التعطش للفرحة التي أصبحت عملةً نادرةً في زمننا هذا؟ وماذا عن الألتراس، وسرّ هذا اللقب، وأهم ما يميزهم عن باقي جماهير كرة القدم. وهنا بالفعل استطعت معرفة سر هذه الكرة، وما وراء كل هذه المشاعر المتدفقة التي تخرج طوال 90 دقيقة أو أكثر.
عن الجماهير الشغوفة بكرة القدم
بمجرد عدم شعورك بالذنب تجاه الوقت المهدر، والذي في بعض الأحيان يفوق الساعتين في مشاهدة مباراة والاستماع للتحليل أيضاً، والتعصب والانهيار مع كل لعبة كادت تقترب من حارس مرمى فريقك، والحزن الشديد بمجرد خسارة ناديك المفضل، فاعلم أنك لست بمشجع عادي، وإنما وصلت لمرحلة الشغف، الذي قد يضرك في يوم من الأيام إذ لم تسيطر على أعصابك، والأمثلة أمامنا كثيرة، "الذي مات بسكتة قلبية متأثراً بخسارة فريقه، والذي فقد صوابه وأخذ يتلفظ بألفاظ خارجة غير مسيطر على حالته"، وغيرهما من الذين "يكهربون" بيوتهم، أو بمعنى أصح يملأون المنزل توتراً وعصبية وطاقة سلبية طوال وقت المباراة.
وهنا وجب التنويه، الذي هو في الحقيقة لمن يقرأ المقال، وليس لهذه الفئة العاشقة بجنون لهذه اللعبة؛ لأنهم في حقيقة الأمر في عالم خاص بهم، "إننا في النهاية أمام مجرد لعبة؛ أي مكسب وخسارة، وعلى الجمهور الخاسر تدارك هذا الأمر سريعاً، والرجوع لحياتهم الطبيعية في أسرع وقت"، أما عن هذه الفئة التي وصلت لمرحلة الشغف والولع بمشاهدة مباريات كرة القدم، فأنا على يقين بأن أغلبهم على علم ووعي بأن ما يفعلونه ما هو إلا ضياع للوقت، ومصدر هام لإلهائهم عن أوضاع بلادهم وأحوالهم الشخصية، كما أنهم يستطيعون السيطرة على أنفسهم حيث الاستفادة من هذا الوقت الضائع في أشياء مفيدة، تجلب لهم الحسنات، والأموال، وربما الشعور بالسعادة، لكنهم مستمرون ومتلذِّذون في كيفية ضياع هذا الوقت بهذه الطريقة، وأعتقد أن لكل واحد منهم مبرره الخاص في ذلك، فهو يعلم أنه إذا تمت مقارنته بذلك اللاعب الذي يأخذ الملايين، ويرتدي أغلى الماركات، فهو خاسر لا محالة.
وهذه المقارنة تفسد عليه لذة المتابعة، والاستمتاع بكل دقيقة في المباراة. فهو يجد السعادة والفرحة، ويشعر بالإثارة في مشاهدة فريقه بلاعبيه يتهافتون على الكرة بمهارة وفن وحركات مميزة، كما يجد حبه لوطنه إذا حقق منتخب بلاده لقباً أو بطولة هامة، فتجده بتلقائية شديدة يردد النشيد الوطني، مسترجعاً أيام المدرسة والوقوف بالطابور، وهذا الشعور كافٍ بالنسبة له، فهو يعرف جيداً طرقَ جلب الأموال، ومن ثم ارتداء الماركات العالمية، لذلك لا يقارن نفسه باللاعبين، لأنهم بالنسبة له وسيلة من وسائل استمتاعه بالحياة، وأداة من أدوات السعادة، لذلك يترك نفسه للاستمتاع باللعبة فقط، فلكل مقام مقال، ولكل حادث حديث.
فئات أخرى
– مضيعة للوقت
وهناك الفئة غير المهتمة أصلاً بكرة القدم، وترى في متابعة المباريات أكبر خسارة، وأكبر مضيعة للوقت، الذي سيُحاسب عليه من رب العالمين.
– تتابع بالصدفة وتشجع اللعبة الحلوة
وأخرى تتابع بالصدفة على غير اهتمام بمواعيد إذاعة المباريات، نراها تشجع اللعبة الحلوة، غير متعصبة لفريق بعينه.
– المنتخب الوطني أول اهتماماتهم والمقارنة أصعب ما يواجههم
هذه الفئة تشجع وتناصر فقط منتخبها الوطني، بجانب بعض الأندية، فهي رافضة من الأساس لفكرة التعلق والإصرار على المشاهدة والمتابعة، نراهم دائمي المقارنة بين حالهم وحال اللاعبين، فهم يحقدون عليهم؛ لأنهم، من وجهة نظرهم، جاؤوا إلى الحياة من أجل اللعب بمقابل مادي كبير، وشهرة لا مثيل لها، تجلب لهم الأموال تلو الأموال. لتستمر حياته هكذا، لعب، فلوس، شهرة، واستمتاع بالحياة على أكمل وجه. وهذا النوع يشاهد المباريات من أجل متابعة قوانين كرة القدم داخل الملعب، واسترجاع طريقة لعبه أيام الطفولة، تاركاً مشاعره في اتجاه عكس اتجاه الـ90 دقيقة؛ لأنه من وجهة نظره يرى أن هؤلاء اللاعبين لا يستحقون استنزاف مشاعره، فكيف له أن يحزن لعدم تسجيل هذا اللاعب مثلاً أي هدف، وهو في نهاية المباراة يأخذ الأموال، ويستمتع بحياته كأن شيئاً لم يكن، وما يراه على صفحاتهم الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي خير دليل على كلامه.
أما عن الألتراس
الألتراس وما أدراك ما الألتراس. معنى الكلمة أولاً يشير إلى الولاء والحب المفرط في كرة القدم، وهي مجموعة تشجيعية تحرص على تشجيع الفريق الذى تتّبعه، وتتنقَّل معه أينما ذهب، مردّدين شعاراته وأغانيه، وتحكم جميع المنتمين إلى هذه المجموعة قواعد وقوانين خاصة في التشجيع، وهي التي تميزهم عن غيرهم، ألا وهي:
ممنوع التوقف عن التشجيع خلال المباراة.
ممنوع الجلوس خلال المباراة.
السفر وراء الفريق أينما حلَّ، وحضور أكبر عدد ممكن من المباريات.
ممنوع تلقي تمويل من أحد.
أما عن البنات وكرة القدم
أما عن حال الجنس الناعم، حيث التشجيع المختلف كلياً وجزئياً عن تشجيع الذكور، فهن أيضاً فئات وأنواع، منهن سنة أولى تشجيع، وسنة أولى كأس عالم، حيث الصراخ والاهتمام بالتفاصيل، منهن العاشقات لهذه اللعبة حيث الحماس في التشجيع وشراء التيشرتات من أجل الاندماج أكثر فأكثر، منهن من يمارسنها فعلياً، ومنهن من يتابعنها من أجل المشاركة العائلية، وجوّ الحماس والتشجيع، وتحديداً بالتجمعات العائلية، حينما تقرر عائلتها الذهاب إلى الاستاد مثلاً، أو داخل المنزل بصحبة أفراد العائلة مع حبات الفول السوداني، وأكواب الشاي، مصحوبة بأطباق الفيشار، وجميع أنواع التسالي التي تحيط بالأسرة طوال مدة المباراة.
وبخصوص هذه الأيام؛ حيث مونديال روسيا 2018، لاحظت الكثير من رواد السوشيال ميديا، وتحديداً تلك الفتيات اللاتي لأول مرة يتابعن مباريات كأس عالم، حيث التحول من كرهٍ لحب لمتابعة جنونية، لدرجة جعلتني أستخلص العديد من الدروس ألا وهي:
أن دوام الحال من المحال، وأن الذي تكره اليوم ربما تحبه غداً، وأن تصلب الرأي في قضايا جدلية أو غير محرمة بأمر إلهي لا يضر إلا صاحب هذا الرأي، وأنك تستطيع الاستمتاع بالحياة إذ قرَّرت بالفعل الاستمتاع بها، فحينها ستعطي إشارات لعقلك بوجوب ذلك، ولو بأبسط وأتفه الأشياء ستغمُرك السعادة.
لا تُسفِّه من هواية أي شخص، فطالما يجد متعته بها ولم يضرك في أي شيء، فعليك احترامه وتقبُّله كما هو، انتقدِه كيفما تشاء، فلكل شخص الحق في إبداء رأيه عن مجريات الأمور وما يحدث حوله، لكن بأدب وبأسلوب لا يقلل ولا يحقر من شأن هذا الإنسان الذي كرَّمه الله وحباه بنعمة العقل.
وأخيراً لا تغرَّنكم الشهرة والملايين وارتداء البرندات. وعليك التفكير في حال هؤلاء النجوم، وكيف تسير حياتهم، وكيف أثرت الشهرة في طريقة معيشته، وعلى مبادئه وأخلاقه؟ وعليك أن تسأل نفسك وتختبرها بهذه الأسئلة: أن تكون حراً في جميع تصرفاتك وأفعالك، غير مقيد بأوامر، أو حتى بجمهور يحبك ويلتفّ حولك ويحاصرك في خروجاتك العائلية، أفضل أم أن تكون محطَّ أنظار الجميع، ومحاسباً على كل لفظ، ومُجبراً على بعض التصرفات التي ربما تخالف مبادئك في بعض المواقف، فتضطر حينها للتنازل عن تلك المبادئ، فقط لمجرد أنك مشهور.
هل تحب أن تكون حياتك الشخصية معلنةً للجميع، ويستضيفك هذا الإعلامي، ويسألك عن أدق أدق تفاصيل حياتك؟
هل تحب جوَّ الشهرة، أم أن الأموال أغمضت عينيك عن كل هذه الأمور السابقة؟
وفي النهاية لا تقارن نفسك بأي شخص، كنْ نفسَك، واشغل نفسك بنفسك، لا تيأس، وحاول بكافة الطرق المشروعة أن تكون الأفضل. فالله لم يخلقك في هذه الدنيا ليعذبك فيها، فكل ما يحدث لك من أضرار ومصائب ما هي إلا ابتلاءات، وستُجازى عليها من رب العالمين إن آجلاً أو عاجلاً. وتفاءلوا بالخير تجدوه، وحاولوا الاستمتاع بالحياة، وبكل لحظة تعيشون فيها وأنتم بصحة جيدة، ومع صحبة وأهل جيدين، فالسعادة تكمن في الرضا وراحة البال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.